منذ الصغر كنّا نُلقَّن في مناهج المدرسة الدراسية سواء في البحرين أو الكويت، مَوادَّ تخص الوطن وواجبات المواطن، في كتب تسمى بالتربية الوطنية، وهي تدخل ضمن مجموعة المواد الاجتماعية مثل التاريخ والجغرافيا. هكذا كان الوضع في الثمانينيَّات من القرن الماضي؛ أمّا الْيَوْمَ فقد تحوَّل المسمَّى في بعض دول الخليج مثل البحرين، إلى منهج "المواطنة"، بدلًا من التربية الوطنية، وأضيفت إليها ثقافة حقوق الإنسان ومبادئها. وهو شيء إيجابي، لكنه -يا للأسف- يُدَرّس في مقابل استمرار ممارسات مجتمعية، نابعة من ثقافة التبعية القادمة من القبيلة أو الجماعة أو الطائفة، وهو ما يُناقض الهدف من تدريس مبادئ العمل بالمواطنة، الغائبة في أكثر من مجتمع عربي.
لكن، بعد العام ٢٠١١ الذي شهد فيه العالَم ثورات الربيع العربي، وغالبها قُمِعت عدا التي في تونس، انتهت هذه المرحلة إلى تقسيم المجتمعات، بصورة يُستخدم فيها الولاء الوطني بلُغتَي "نحن" و"أنتم". فمَن كان مع السلطة فهو إذًا مُواطن صالح، وإنْ كنتَ صاحب رأي آخر، أصبحتَ خائنًا وضد السلطة. وهكذا هي المواطنة، تغيَّر مفهومها ليتحوَّل بشكل أكبر إلى مهرجانات احتفالية وخطابية، يَغلب عليها ثقافة الانحياز، وحتى سوء الظن؛ وذلك بسبب غياب عامل الثقة بين من يُمسك بزمام السلطة، ومَن يعيش تحت ظلِّها.
وهو ما يجعلنا نتساءل: إلى أي مدى استطاع النظام التعليمي في الخليج، وتحديدًا في البحرين التي عصَف بها الكثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية، أن يعمِّق عند النشء موضوعَي الانتماء والمواطنة، والاعتزاز بهما؟ إن ذلك يقود إلى حالة مشوَّهة ووعي مزيَّف للمواطنة، أي إنّ المواطنة يجب أن تكون في مخيلة الطالب حافظة لحقوق الفرد، وهذا هو المفهوم الصحيح. فهي ليست مواطَنة المذهب أو الدين أو القبيلة، وإنما هي حقوق وواجبات. وقد يأتي الخلل من المنهج الدراسي، أو المدرِّس نفسه، أو أحيانًا من نُظم التربية الاجتماعية ذات النفوذ والسيطرة، أو بِفِعل اضطراب العلاقة بين الدولة والمجتمع، أو تجاهُل الدولة وإنكارها في مجتمعها.
فإنْ كانت المواطنة غير مفعَّلة في مجتمعاتنا بمفهومها الصحيح، فهل يعنى أن العنصرية متنامية؟ وهل نضبط أنفسنا أحيانًا ونحن نمارسها تجاه بعضنا بعضًا، حتى ولو أنكرنا ذلك، في منطقة شهدَت مهبط الأديان السماوية الداعية جميعها إلى المساواة بين البشر، وتَعرَّض سكانها للكثير من الظلم عبر التاريخ؟
فماذا تَعلَّمنا من كتب التربية الوطنية في البحرين في الثمانينيّات؟ نَذكر تمامًا أنها كانت ترسم صورة ضبابية، تتعامل بشكل فوقي وسلطوي من دون أن تستخدم العواطف من جهة، أو تشرح أسباب الالتزامات المفروضة على المواطن من جهة أخرى. ببساطة، المواطَنة في هذه الكتب كانت عبارة عن مجموعة أوامر خطِّيّة، وعلى المواطن التزامها. وهكذا تنتهي العلاقة، فهي محدَّدة الأبعاد والشكل، دون التطرق إلى الهُوِيَّة المتميزة وانعكاسها على تعددية المجتمع بمختلف أطيافه. وقد يكون هذا أحد الإشكاليات، خاصة وأن موضوعَي المواطَنة والانتماء هما امتداد للوحدة الوطنية، والتأسيس لنشء سياسي في إطارهما العامّ، أي الإعداد لمواطن صالح، يستطيع التفاعل والمساهمة في مجتمع ديمقراطي منفتح على الآخر، من خلال المشاركة بكل شفافية ودون خوف.
إن التعليم والوعي بالحقوق المدنية والسياسية في منطقتنا العربية، وتحديدًا في البحرين، لطالما ارتبط بفكرة تحرُّر الفرد من القيود المختلفة. ولهذا، فإن مُخْرَجات التعليم الصحيحة، هي من تؤسس وتغرس التسامح والمواطنة في الفرد، وتعمِّق الانتماء لديه. وهذا لن يكون في ظل غياب الدور للمؤسسات المجتمعية، ولكن من خلال إرادة سياسية ومجتمعية فاعلة، وقادرة على صياغة مستقبل المجتمع الذي فيه تتساوى الحقوق وتحظى بمساحَتَي الشفافية والمساءلة، وتَتكامَل فيه مؤسسات المجتمع المدني مع الدولة؛ ما يَصبُّ في مصلحة تعزيز الوحدة الوطنية والمواطنة الحقيقية، من خلال الانتقال بالفرد من كونه تابعًا، إلى كونه مواطنًا له حقوق وعليه واجبات. وهو ما يعني انتقال الفرد من تبعية القبيلة أو الطائفة أو العِرق، إلى الانتماء الوطني.
من خلال تجاربنا في الأعوام السبعة الأخيرة، تَعلَّمنا مدى الحاجة إلى مواطنة حقيقية في البحرين أكثر من أي وقت آخر، وخاصة في ظل تنامي خطابات الكراهية والفرقة، في الإعلام التقليدي وشبكات التواصل الاجتماعي، الموجهة داخل مجتمعاتنا. لذا، علينا البدء من داخل الأسرة، وُصولًا إلى المجتمع، فالدولة. فإن لم نُصلح حاضرنا، فإننا دون شك قد ندمِّر مستقبل الأجيال المقبلة، بثقافتَي الكراهية والعنصرية، بعيدًا عن المواطنة، وبعيدًا عن التسامح الذي -يا للأسف- نتغنى به في احتفالات البهرجة الوطنية، والاستهلاك الإعلامي.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.