تخيَّلْ لو خرجتَ يومًا من منزلك، فوجدتَ أنّ الطرقات قد اختفت. تأمّل لِلحظة هذا المشهد. اسأل نفسك: ماذا لو أصبحتُ مضطرًّا إلى العبور في أرض جاري، ثم في أراضي الآخرين، للوصول إلى المكان الذي أقصده؟ وماذا لو قرّر جاري بناء سُور على حدود أرضه، وهكذا فعل الآخرون؟ خلاصة القول أن الحياة سجن مؤبّد لمن يعتقد أن في استطاعته العيش بدون الشَّراكة مع الآخرين. الإنسان بطبيعته كائن اجتماعيٌّ؛ ولهذا السبب لا تكتمل ذاته، ولا تتحقّق حياته، إلّا بالتَّفاعل والتَّكامل والتَّواصل والتَّعاون مع الآخرين.
إنّ الطرقات هي من أبسط تجلِّيَات هذا البُعد العام والمشترك للحياة، وبدونها لا يفقد المجال العام وجوده وحسْب، بل لا تَعُود الملكيَّة الخاصَّة تنفع أيّ شيء، لأنها كما رأينا تتحوّل إلى سجن مؤبّد لصاحبها. فكما أن المجال الخاص يحتاج إلى المجال العام ليكون نافعًا، فالإنسان يحتاج إلى الآخرين ليكون شخصًا بشريًّا بكامل أبعاد حياته.
والمجال العام لا يقتصر طبعًا على بُعده المادِّي الجغرافيِّ. في عام 1784، كتب الفيلسوف إيمانويل كانط مقالة شهيرة بعنوان: "ما هو التَّنوير؟". يرى كانط أنّ التَّنوير، سواء للفرد أو للجمهور، يتطلّب حريَّة "الاستعمال العموميّ للعقل" في كلِّ الميادين. فالإنسان لا يكون مستنيرًا عندما يتحرّر من أيِّ وصاية خارجيَّة، ويتمتّع بالإرادة والجرأة في استخدام عقله كما يشاء وحسْب، بل يحتاج أيضًا إلى أن يُترجم هذا التحرّر ويُحقّقه من خلال التَّواصل الحرّ مع الآخرين، بهدف المشاركة في تشكيل الرَّأي العام، عبر "الاستعمال العموميّ للعقل".
طوّر الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس هذا المفهوم، إذ أصدر دراسة مهمّة في عام 1961 بعنوان "التحوّل البنيوي للمجال العام". فبالنسبة إليه، يتشكّل "المجال العام" مع كل نقاش ينعقد بين أفراد خصوصيّين حول قضايا تعنيهم، بوصفهم "كيانًا عموميًّا"؛ ما يعني أنّ المجال العام لا يقتصر على هذا الفضاء الخارجي الذي نجده في الأسواق، والمقاهي، والصحافة.. إلخ، حيث يتلاقى الأفراد وتدور النِّقاشات، إنّما هو أيضًا هذا الكيان المعنوي العام الذي يتشكّل من تلاقي الأفراد مع بعضهم، بشكل مستقلٍّ عن سلطة الدَّولة، وعن سلطة الرَّوابط التقليديّة كالعائلة والعشيرة. وربما أفضلُ تعريف للفضاء العام، هو هذا الكيان الذي يصنع من أفراد غرباء، شركاء في تحقيق الصَّالح العام والمشترك. فبالنسبة إلى هابرماس، لا يتصرّف النَّاس في المجال العام على أساس مصالحهم الخاصَّة، كرجال أعمال مثلًا يتداولون في أمور أعمالهم، ولا كرعايا في منظومة الدَّولة التي يخضعون لقيودها القانونيَّة والبيروقراطيَّة. فهم لا يشكّلون كيانًا عموميًّا إلّا عندما يُقْدمون على التَّلاقي والتَّواصل بدون قيود، لمناقشة القضايا المتعلّقة بالصَّالح العامِّ. لذلك، يتميّز المجال العامُّ بكونه منفصلًا عن الدَّولة. فهو يسكن مساحة وُسْطى في ما بين المجتمع والدَّولة.
إنّ أهميّة هذه المسألة تكمن في الإضاءة على ضرورة قيام المجال العام، لكي يتشكّل الرَّابطُ الصحيح بين الدَّولة والمجتمع. إنّنا غالبًا ما نلاحظ في المجتمعات العربيَّة علاقة غير سليمة في تعامل المواطنين مع دُوَلهم، فتتّسم في بعض الأحيان بنوع من العدائيَّة من قبل المواطنين، وأحيانًا أخرى بنوع من الزبائنيَّة الاستغلاليَّة. فقد تجد من يُسهم في تدمير المُنشَآت العامَّة، أو في استغلالها وكأنّها تُمثّل كيانًا منافسًا أو قاهرًا لمصالحه. ومن جهة أخرى، تتعامل أحيانًا أجهزةُ الدَّولة ومَن يعمل فيها مع المواطنين، وكأنهم رعايا قاصرون، يَتَمنَّنُون عليهم بالخدمات الَّتي هي أصلًا حقٌّ مكتسَبٌ لهم. ففي الدُّول المتقدّمة، كلُّ عامل في أجهزة الدَّولة المختلفة، مهما بلغَتْ رتبته، ومنهم الوزراء والمسؤولون السِّياسيُّون، يُسمّون "الخادم العام" (Public Servant).
تَصِل المجتمعات إلى هذا القدر من الرُّقيّ، عندما تستند الدَّولة والسلطة السياسيَّة إلى رأي عامٍّ راشد، أنتج عقدًا اجتماعيًّا، يُعبّر عن إرادة المواطنين ككيان عموميّ، العيشَ معًا في مجتمع سياسيٍّ يخضع لسلطة الدَّولة. يتطلّب هذا الأمر وعي الأفراد بأنّ لا تَناقض بين البُعد العام والبعد الخاص، لشخصهم وحياتهم. بل على العكس، إنّ البعد العام هو الذي يُعطي لذواتهم الخاصَّة مجال تحقّقها، وإلّا ظلّ الإنسان سجين ذاته، أو بيئته الخاصَّة، أو حتى السُّلطة السِّياسيَّة الخاضع لها، وكلها سجون مظلمة. ففي المجال العامِّ يُحقّق الأفراد خصوصيّـتهم، بالعلاقة بالآخرين، وليس بالانعزال عنهم.
متى يكون لنا ذلك؟ متى نخرج من سجوننا لنتجوّل في هذه الطُّرقات غير الماديّة التي تربط في ما بيننا، كمواطنين أحرار، راشدين، قادرين على تحديد خيرنا بشكل عام، بدل التَّصارع على فتات خيرات واهية، متساقطة من مائدة الحكّام؟ لن يكون لنا ذلك ما دُمنا قد بَقِينا قابعين داخل عقولٍ مغلقةٍ كلُّ أبوابِها ونوافذها، كمن يسكن في منزل لا طريق له، وهو يعتقد أنه يسكن العالم بأسره. بالعودة إلى كانط، إنّ هذا التَّغيير لا يَحدث بثورات، بل ببلوغ الأفراد مستوى "التَّنوير"، أي عندما نبدأ بفتح أبواب عقولنا، فنخرج منها على دروب الاستقلال الفكري، ونُدخل إليها أنوار التَّفاعل مع الآخرين، لنصبح معًا كيانًا عامًّا للخير والسَّلام.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.