كَثُر الحديث في الآونة الأخيرة بالمرأة المعاصرة، ومقارنتها بنساء الزمن الأوّل، بل تعدّى الأمر حدودَ المقارنة إلى الهجوم المُعلن، وتحميل المرأة مسؤوليّة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الأُسَر. هجومٌ شاركَت فيه نساء من جدّاتنا الموقّرات اللواتي ظهرْنَ في فيديوهات، يصِفْنَ فيها المرأة "أيّام زمان"، بالمرأة كما يجب أن تكون: تُنظّف، وتَطبخ، وتعجن الخبز، ثمّ تستقبل زوجها، وتتحمّل منه الزجر والتعنيف، وتصبر عليه من أجل البيت. ثم يُقارِنَّها بعد ذلك بامرأة اليوم، التي -كما يَقُلْنَ- لا تجدها صبورةً متحمّلة، كما يجب أنْ تكون المرأة حسب رأيهنّ. فهي اليوم امرأة مُدلّلة، غير متفانية في خدمة زوجها وبيتها، ومطبخها أيضًا.
تحدّثَت إحداهنّ بكل براءة، ولكنّها أخطأت المقارنة، كعادة بعضنا حين يُقارِن. نسيَت تلك الجدّة أنْ تُخبرنا بأنّ الزمان تَغيّر، وأنّ المرأة التي كانت تعمل بالحقل، هي اليوم تعمل في المدرسة والمستشفى والشركة، وهي تتحمّل ما يتحمّله الرجل مِن أعباء، إضافةً إلى أعباء المنزل؛ لأنّ زوجها تَربّى على عدم المشاركة في الأعباء المنزليّة، بتأثير نساءٍ لهنّ أفكار الجدّة تمامًا.
نسيَت الجدّة أنْ تُخبرنا، أنّ العوائل الممتدّة التي تتقاسم غَلّة الحقل، لم تعُدْ موجودة، وأنّ مسؤوليّة الأبناء باتت في رقبة الأب والأمّ فقط، وأنّ التعليم المجّانيّ أصبح ضعيفًا، وأنّ المتعلّم العاديّ لم يعُدْ مميَّزًا كما كانت الدنيا قبل عقود، وأنه باتَ لزامًا على الأهل توفير تعليم أفضل للأبناء، وباتَ على الأمّ مساعدة أبنائها في دروسهم، حتّى إنّ بعض الأمّهات لو أُتيحت لهنّ فرصة تقديم الامتحانات عن أبنائهنّ، لحصلْنَ على علامة كاملة.
الجدّة لا تَعرف أنّ المرأة اليوم تتغرّب بعيدًا عن عائلتها، إلى بلاد قد لا تَعرف لغتها ولا ناسها؛ لأنّ في هذه الغربة حياةً أفضل لأبنائها، وأمْنًا وتعليمًا وصحّة. الجدّة الكريمة لا تَعرف أنّ التحدّيات اليوم كبيرة، وأنّ الأمَّ لا تستطيع أنْ تَأمن على ابنها أو بنتها في الشارع. فالأمر تغيَّرَ ولم يعُد كما كان عليه أيّام جدّتنا، حيث يَعرف السكّان بعضهم بعضًا، بل وتجد بينهم أواصر نسب وقرابة. فبات لزامًا على الأُمّ المراقبة والتوجيه والتدريس والتوصيل، إضافة إلى العمل خارج البيت إنْ لزم الأمر.
اختلفَت المسؤوليّات وتغيّرت، ولكنّها لم تَقلَّ أبدًا، بل زادت وتعاظمت. وأنا في كلامي أعني غالبيّة سكّان الوطن العربيّ، مِن الطبقة المتوسّطة ومحدودي الدخل. هذه المسؤوليّات لم يرافِقْها على الجانب الآخر حقوقٌ إضافيّة؛ إذ ما تزال حقوق المرأة قابعة في مكانها كما كانت زمن الجدّة المستاءة، وما زال الرجل يستمتع بالامتيازات نفسها، حتّى وإنْ حمَلت المرأة معه نصف أعبائه؛ ما عظَّم الشعور عند المرأة بالغَبْن والظلم، وأثَّرَ سلبًا في البيوت العامرة.
بعض النساء استَسلمْنَ للأمر الواقع. فتراهُنّ يتحمّلْنَ كلّ الأعباء خارج المنزل وداخله، لا يَشْكُونَ، ولا يتألّمْنَ، ويَطلبْنَ العوض مِن الله. لكنَّ بعضهنّ الآخر يرفضْنَ، ويُطالبْنَ بزيادة في الحقوق تُوازي الزيادة في الواجبات. وهنا تجد المرأة نفسَها في صدام مع الرجل، والمجتمع، ورجُل الدِّين. إنّها مُطالَبةٌ لا يمكن اعتبارها إلّا مُنصِفة، لكلّ شخص مُحايد يعرف أساسيّات حقوق الإنسان، ويَعُدُّ المرأة إنسانًا كالرجل، خصوصًا وإن أغلب الدساتير العربية تساوي بين المرأة والرجل في المواطَنة، في حين لا يَظهر هذا الأمر واضحًا في التفاصيل وقوانين الأحوال المدنية.
لم يعُدْ في الإمكان إجبار امرأةٍ متعلّمة عاملة، على قبول أوضاع مهينة للكرامة الإنسانيّة كالضرب والتعنيف، أو قبول التهديد بالطلاق بكلمة، أو بالزواج من أخرى غيرها. لا يمكن لامرأة واعيةٍ أنْ تضع كلَّ ثقلها وحياتها ومستقبلها، في مؤسّسة لا تجد فيها الأمان. وإنْ رفضت المرأة البقاء في زواج كهذا، وفضَّلت الخروج بأقلّ الخسائر وقبل نفاد العمر، فلا يمكن نعتُها بالأنانيّة.
الأجدى -بدلًا مِن مناقشة تغيير المرأة واتّهامها بالتقصير، وهي التي عُرفت على مرّ الزمان بالحنونة المعطاءة-، أنْ نَفتح باب النقاش حول سبب تغييرها، وأنْ نجد حلولًا مُنصفة خارج إطار الخطاب الدينيّ الموجَّه إلى المرأة، الذي يُطالبها بالصبر وطلب العوض في الآخرة، في الوقت الذي يوجَّه فيه إلى الرجل خطابٌ آخر، يُعطيه العوض في الدنيا والآخرة.
الأجدى أنْ نَضمن للمرأة حقوقًا إضافيّة، تأخذ بعين الاعتبار التغيير المجتمعيّ، واختلاف توزيع الأدوار، والمشاركة التي فرضها أسلوب الحياة المعاصر، الذي لا يُمكن بأيّ حال مِن الأحوال أنْ يَعُود للخَلف.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.