حين يواجِهُ المرءُ كارثةً مباغتة، فإنه يستشعر الهجر والتخلِّي، وكأنه مُلقًى مَهجورًا وحيدًا في العالَم، بلا سند ولا مَلاذ. إنها مَدارات الوحشة الآسِيَة، تَستلب المرءَ وتجعله يستوحش من كلِّ شيء، حتى من ذاته التي تَسكن بين جَنبَيه. في تلك اللحظة القاسية، يبدأ المرء بالتفتيش داخل ذاته عن مساحات الأمان واليقين، علَّه يجد بؤرة ضوء داخل تلك المتاهة الذاتية المظلمة. بعبارة أخرى، تنسحب الذات من عوالمها الخارجية، مرتَدَّة إلى داخل ذاتها، في فعل مواجَهةٍ عاريةٍ مع تلك الذات، بل قاسية إن جاز التعبير؛ من أجل الفهم لِمَا حدث، عبْر مساءلة الذات، وتقييم ما مضى وما هو موجود، والتمهيد لِمَا هو آت. بل إنَّ الشعور بوطأة الزمن يكُون ثقيلًا في تلك اللحظة، لأنه يُعادِل بصورةٍ ما لحظةَ تقرير المصير، وتحديد الهدف الحقيقيِّ من حياة المرء، التي ربما يكُون صرَفَها حتى هذه اللحظة في مَسارب اللَّاجدْوَى.
قد تتبدَّى اللحظة، وكأنَّها لحظةُ مواجَهةِ العبث والفوضى، النَّاجِمَين عن مواجهة الكارثة المباغتة للمرء. وقد يتفاقم الشعور بالعدم واللَّامعنى واليأس العارم، غيْرَ أنَّ اللحظة تنطوي على نقيضها القارِّ في عُمقها، بل هي بالضرورة -إن صحَّ التعبير- لحظةُ ميلادِ الصدق، وانبثاق الأمل، بل مَذاق الأنس. فحين تنتبه الذات من غفلتها الطويلة، ويقينِها الآمن الزائف، وأوهام الدَّعَة والاستقرار؛ تُواجِه حقيقةَ الحياة بكلِّ قسوتها وغدرها، وهي الزَّوال وعدم الدوام.
لا شيء نَملكه يقينًا في أيدينا سوى لحظة الآن (الحاضر سريع الزَّوال)، ولا ماضِيَ يُستعاد، ولا مستقبل نَضمنه في قبضتنا. حينئذ يصبح من الواجب علينا مواجهة التعايش مع ذلك التغيُّر المتعاقِب السريع، بكلِّ ما يَحمله من تَوقُّعات واحتمالات سارَّة أو مُحزنة، ولا سبيل أمامنا غير هذا. إلَّا أنَّ هذا التعايش لا بدَّ أنْ يكُون رشيدًا وذكيًّا، وليس مُحبِطًا ويائسًا، بمعنى أنْ يتحوَّل شعور الوحشة والهجر إلى الِائْتِناس بالذات وبالآخر، أو التَّآلُف مع تلك الغرابة اليومية للحياة، المتطايرة كالأوراق في مسارات الرياح. إنها بداية للتصالح مع الذات، وقَبولِها وبَعْثها من جديد، في سياق حيَويَّة اللحظة الخلَّاقة العميقة الحضور والتَّوهُّج، ولحظة الطَّزَاجة (الطَّرَاوة والنَّقاء) المتجدِّدة من أجل العيش في العمق، وليس عبر الامتداد السَّطحيِّ الساذج للزمن.
بعبارة أخرى، علينا أنْ نُعايِش كلَّ لحظة في حياتنا بعُمق وأناة، وكأنها لحظةٌ متواصلة مع الأبد، وزَمنُ الله الذي هو مَكْمن الأنس الحقيقي، حيث تنضبط إيقاعات اليقين، وتتحقَّق دَواعي الأمان، حين نلُوذ به تعالَى ونَفرُّ إليه، دُون أنْ نَنفِر أو نستوحش من مخلوقاته التي هي مَجالِيهِ (مَظاهِره الكاشفة عن وجوده) بصورةٍ ما. لا بل علينا أن نَأنس بذواتنا، وبالعالم والطبيعة والآخرين، عبْر مَرايا أُنسنا بالأصل الخالق العادل الحقِّ، حيث يَكمن الأمانُ في داخلنا، واليقينُ في عقولنا وأرواحنا، حين تنفتح نوافذ الروح على مساحات الأنس بالخالد، وعدالته الشِّعرية المُنبثَّة في الوجود. تقول رابعة العدويَّة الزاهدة الشهيرة:
وجعلتُ منك في الفؤاد مُحدِّثِي وأبَحتُ جسمي مَن أراد جُلوسي
فالجسم منِّي للجليس مُؤانِسٌ وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
اِئْتِناسٌ جلِيٌّ بالحبيب، الذي ما وسعَتْه أرضُه ولا سماؤه، لكنْ وسِعَه قلبُ عبْدتِه العاشقة الوالهة. فآنَسَها بحديثه الباطنيِّ المتجدِّد دومًا، بتجدُّد الأصل الإلهيِّ الخلَّاق، وطَزَاجة الشَّوق المتوهِّج لعاشقة تَحلم بالوصل المُحال.
ربَّما بدأت رابعة سعيها الحثيث، في طريقها نحو الحُلم المُخايَل بأُنس الوصال مع الحبيب، عبْر الخوض في فضاءات الخوف والوحشة القاسية، بدايةً من يُتْمها وفقرها وغُربتها وعبوديَّتها، ومِن كَونِها أنثى ضعيفةً مجرَّدة من الحماية الأبويَّة، وعاريةً من أيِّ غِطاء اجتماعي طبَقي، حيث ترصَّدَتها نظرة الشر الذكورية المهيمِنة، وأسَرَتْها في مَدارات العبودية البغيضة لسيِّدها -ذلك المخلوق القاسي-، الذي قمَعها بغِناه ونفوذه وسَطْوته الطبقية والجندرية. هذا ما تَواتَر في الحكايات المتداوَلة حول رابعة، التي لا تَخلو من مُخايَلات القَداسة الأسطورية.
في لحظة فارقة وغامضة في حياة رابعة، انتبهَت من غفلة الدنيا، ووعَت مدى اغترابها عن هذه العوالم بعلاقاتها الزائفة والمشوَّهة. فرحلَت مُرتدَّة إلى عُمق ذاتها، بحثًا عن وجودها الأصيل، وسعيًا لتحرير حضورها روحًا وجسدًا، من قبضة علاقات الهيمنة والقمع. وقد كان ائْتِناسُها بذاتها التي اكتشفَتها، وصاغت حضورَها بإرادتها الحرَّة الخلَّاقة، بِمَعزل عن حضور الآخَر المستَوحَش منه؛ هو البداية لتشكيل مَدارات الأُنس المُشتَهِي الحُلمَ بالآخَر المطلَق، بل والنِّسبي، لكنْ في إطار البَوح الإراديِّ الحُرِّ، من خلال الحديث الحميم الحيَويِّ المتجدِّد والحِواريِّ، لا في إطار الاستباحة القمعية، التي استلبَت الذاتَ طويلًا في فضاءات الوحشة والخوف.
لا يتعارض أُنسُ الروح المنعتقة، بحديث الحبيب الإلهيِّ مع أُنس الجسد الحُرِّ، الذي يبُوح بِدَوره بَوحًا إنسانيًّا جماليًّا راقيًا، لجليسه الرَّفيق المُؤْنس، والمُنْصِت برهافة لِلبَوح الناعم، الذي لا يَفرض هيمنته القمعية على الذات الحُرَّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.