إنّ متابعة الجدل القائم حول فيروس "كورونا" في العالم، كفيل بأنْ يجعلنا نتخيّله أحيانًا كإنسان، أراد بيئةً ينمو فيها ويتكاثر. فبَعْد ولادته في 17 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019 بحسب صحيفة South China Morning Post، سارَع بعضهم إلى تسميته بفيروس "وُوهان" (أو الفيروس الصيني)، وتحديد عائلته وقريته وبلده، عِلمًا أن ليس هناك أيُّ دليل عِلميّ قاطع حتى الساعة، يثبت أنَّ الفيروس انطلق من الصين، حتى ولو كان ذلك مرجَّحًا جدًّا.
بالطبع، أُلصقَت بـ"كورونا" صفاتُ المجتمع والبيئة وتقاليدُهما وقِيَمُهما، التي من المفترَض في الفيروس أنّه نمَى فيهما. فتَرافَق الحديث فيه بصُوَر نمطيَّة عنصريّة وطبقيّة، عن شعوب شرق آسيا ومأكولاتها "الغريبة"، وثقافتها "المُغلَقة الديكتاتورية"، و"لونها الأصفر"، و"فَقْرها"، و"قلّة نظافتها". بعضهم اعتبره عدوًّا بيولوجيًّا؛ أمّا بعضهم الآخر، فرأى فيه عقابًا إلهيًّا، في حين أنَّ آخَرِين قدّموا له الشكر، لأنّه منَح البيئة والأرض إجازةً للرّاحة.
فِعلًا، لو تخيّلْنا "كورونا" أنّه إنسان، لكان هذا الإنسان هو ذاك المختلف "الغريب" الذي يخيفنا؛ ليس لأنّه فتّاك وقاتلٌ فقط، بل لأنّه قادمٌ من بلد مختلف ومجهول. فعندما أسْماه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالفيروس الصيني، أراد تغذية جذور العنصرية المترسّخة بين شعوب البلَدَين منذ عقود. لكنّ ترامب سرعان ما تَراجع عن استخدام هذه التسمية؛ ربّما بعدما أدرك أنّ عنصريَّته قد تُخسره أصوات الأميركيِّين/ات المتحدّرين/ات من أصول شرق آسيوية، في الانتخابات المقبلة. فقال في "تغريدة" له: "من المهمِّ جدًّا أن نَحمي مجتمعنا الأميركي الآسيوي في الولايات المتحدة... إنَّ انتشار الفيروس... ليس خطأهم بأيِّ طريقةٍ أو شكل".
في حين كان "كورونا" ينمو، وتَتشكّل هُويّتُه في أذهان الناس، كان لا بد لمنظَّمة الصحة العالميّة أن تختار اسمًا رسميًّا له، من أجل ثَنْي الناس عن استخدام مسمّياتٍ أخرى. لذلك، أطلَقَت عليه المنظمة اسم "كوفيد-19"، حِرصًا منها -وطِبقًا للتوصيات الصادرة عنها في عام 2015- على تجنُّب إطلاق أسماء مرتبطة بفرد أو مجموعة من الأشخاص أو مواقع جغرافيّة أو حيوانات، لمنع التنميط والوصم.
قبْل فيروس "كوفيد-19"، تحوّلت أسماء العديد من الأوبئة حول العالم إلى جرائم لغويّة بحقِّ مناطق وشعوب، مثل: الإنفلونزا الإسبانيّة، أو فيروس إيبولا، حيث سُمِّي الوباء نسبةً إلى البلدة أو المنطقة التي اكتُشف فيها؛ ما أنتَجَ سرديّةً عنصريّة، لا تُمحى من الذاكرة الجماعية العالمية بسهولة. أسماء أخرى ارتبطت بالحيوانات، كإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير؛ ما أنتَجَ أيضًا جرائم بيئيّة بحقِّ ملايين الطيور والخنازير، التي جرى قتلها حول العالم، حتى ولو لم تكن مصابةً بالفيروس أو غيْر مُحتَمَلٍ نَقْلُها له.
لُغة الناس لم تكتفِ بتوصيف الأوبئة وتنميطها فقط، بل عمدَت أيضًا إلى تخليد تأثيرها في مناطق بكمالها. في لبنان على سبيل المثال: منطقة سميّت بـ"الكرنتينا". وهي تعريب لفظيّ لكلمة "La Quarantaine"، وتعني "المَحْجَر الصِّحِّيّ"، الذي أنشأه حاكم بلاد الشام عام 1831 (والي مصر إبراهيم باشا بن محمد علي). وقد أُنشئ هذا المَحجَر لعزل الوافدين إلى بلاد الشام عبْر البحر، في ظلِّ انتشار وَباءَي "الكوليرا والسلّ" في أوروبا، وقبْلهما الطاعون والحمّى الصفراء. ومِن أجل مكافحة هذه الأوبئة ومنْع انتشارها، كان لا بد من حجر الوافدين/ات في منطقة واحدة، ليبقى اسمها بعد 189 عامًا مرتبطًا بالأوبئة، ولو لم يَعْلم كثيرون/ات اليوم سبب هذه التسمية.
إنْ أمْعَنَّا النظر في التاريخ، ندرك تمامًا أنَّ لُغتنا قد تُحدّد مصيرنا وتَواصُلنا مع بعضنا بعضًا، حتى مع البيئة أو الطبيعة التي تحيط بنا. وإنْ أمْعَنَّا النظر في المحنة الحاليّة، ندرك أنّ العالم ليس تحت سيطرتنا، وأنّ اعتقادنا أنّنا نتحكّم في هذه الأرض ونُخضع مَواردها لمصلحتنا فقط، لَهُوَ اعتقاد باطل. وإنْ دقّقنا في خريطة العالم الآن، نرى أن الحدود بيننا اختفت وراء تلك البُقَع الحُمْرِ، التي تتوسّع وتُنْذرنا بأنّنا أمام خِيارَين: إمّا أن نموت بفَوقيّتنا وعنصرّيتنا، أو أن نَحْيا بتواضعنا وتضامُننا.
فِعلًا، لو كان "كورونا" إنسانًا، لتكلّم وأخبرنا وصارَحَنا بأنّه لن يُميّز بيننا على أساس أعراقنا أو أدياننا أو جنسياتنا، لكنه كان "عادلًا" في إصابتنا كُلِّنا. فَلْنتَّعِظ!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.