عادة ما ينظر الحَداثيُّون والتقدُّميون من المسلمين، إلى شركائهم في الدين من سلفيِّين وتقليديِّين، نظرةً فيها شيء من الازدراء، باعتبارهم أشخاصًا جامدين يرفضون النقد والتجديد، بل يحملون بالقوة أو بالفعل فَيرُوسَي التطرف والعنف. وفي الحقيقة، المشاعر متبادلة في كثير من الأحيان. فنظرةُ السَّلَفي والتقليدي إلى الحَداثي تَشُوبها كثير من مشاعر الريبة، تصِل أحيانًا إلى درجَتَي التبديع والتكفير، باعتبار الحداثيين طابورًا خامسًا للغرب، وما إلى ذلك من التُّهم الخطيرة. فهناك أزمة ثقة كبيرة تفصل بين الطرفين، وتحُول دون حوار جادٍّ مبني على التفهّم وحسن الإنصات، خاصة إنْ تَزامَن ذلك مع أجواء سياسية ملبدة بغيوم الاستبداد والإقصاء.
يشهد التاريخ الحديث صراعًا مريرًا بين الطرفين، لا يمكن لأحد أن يدّعي فيه البراءة، وأن يُلقي التهمة على الآخر. هناك مَن يُزايد ويقول إن الديكتاتورية الدينية أسوأ من الديكتاتورية العلمانية، ولكن لعبة التفاضل بين الشرور تَفقد معناها في عينَي الضحيَّة، التي عانت السجن والتعذيب مهْما كانت أيديولوجية الجلاّد وشكله. أما المستفيد من الديكتاتورية من الطرفين، فهو شريك في الجريمة بشكل مباشر أو غير مباشر، بالفعل أو بالصمت أو بالرضا بهامش حرية يرتضيه المستبدُّ. وفي عدة حالات نرى أن أحد الطرفين هو نتيجة الآخر، بمعنى أن التطرف والاستبداد العلمانيَّيْن يولّدان التطرف الديني والعكس، فالأطراف تلتقي في تطرفها وعنفها، ويؤكّد بعضها بعضًا.
في المجتمعات التي تتلمَّس طريقها بصعوبة نحو الديمقراطية، يستنزف الاستقطابُ الفكري والوجداني بين "المعسكرَيْن"، على صعيد النُّخَب والأحزاب والجمعيات، طاقاتٍ كبيرةً في جدل عقيم، وحروب كلامية ودموية أحيانًا، تَرفع جدرانًا عالية من التنافر والتنابز؛ ما قد يهدّد المشروع الديمقراطي نفسه بالفشل أو بالإبطاء، في لحظة تاريخية شديدة الصعوبة، تقتضي توحُّد كافة القوى الاجتماعية لتَخطِّي المرحلة الانتقالية بسلام، وبناء مؤسسات ديمقراطية قوية ومستقرة.
من أجل بناء حوار داخلي يتخطّى خطوط الفصل، لا بد من شيء من التواضع، والتخلّص من الكِبْر والاستعلاء، والتساؤل بجدية عما يمكن أن يقوله المحافظ للتقدمي، واليميني لليساري، والمتديّن التقليدي للمتديّن الليبرالي أو الليبرالي غير المتدين أصلًا، والعكس صحيح. ماذا يمكن أنْ يتعلّم أحدهما من الآخر؟
هناك حالات صعبة ومعقّدة من الناحية الإنسانية، تجعل الحوار بعيد المنال، ولا تتوافر شروطه الذاتية والموضوعية. ولكنني أؤمن بعمق بـ"معجزة" اللقاء الإنساني، وقدرتها على تحويل الإنسان وتغيير واقعه، حتى ولو بقي الطرفان في نهاية المطاف متمسِّكَيْن بما لديهما من أفكار؛ فالإنسان لا يُختزل في أفكاره، وقيمتُه في ذاته الإنسانية بِغضِّ النظر عن أي اعتبار آخر. اللقاء هو إعادة اكتشاف لإنسانيتنا المشتركة، قبل اكتشاف المنطق الداخلي لفكر الآخر.
أوّل ما يعلّمني صديقي السلفي، هو التواضع والنزول من بُرْجي "الاستكباري"، للالتفات إلى تديّن الناس من حولي. فمَهْما بدا ذلك النمط من التديّن سطحيًّا ولاعقلانيًّا، فهو يحتوي في دوافعه وظروفه شيئًا من المعقولية، فلا شيء يوجد من فراغ. صراع الأنانيات المتورّمة والمصالح غير المعلنة، تُحوّل حياتنا إلى جحيم، وهو سقوط بِتديُّننا مهْما كان لونه، إلى مستنقع الصراعات العبثية المنهِكة للقوى والعزائم.
وأيضًا يعلِّمني صديقي السلفي أن أعتبر ظاهر النص، بل يعلِّمني أن أواجه ذلك الجزء العَصِيَّ من التراث الذي لا أريد أن أراه؛ لأنه يُحرجني ولا يناسب أفكاري. فهو واقع فكري واجتماعي لا يمكن تجاهله، فلا أَتِيهُ وسط نظرياتي الفلسفية النُّخْبوية المنفصلة عن النص من ناحية، وعن المجتمع من ناحية ثانية. قد لا أتَّفق مع الفهم السائد، ولكن لا يمكنني أن أغضَّ الطرف عنه. أنجَحُ نظريةٍ تفسيرية، كَكُلِّ نظرية علمية، هي التي تأخذ بعين الاعتبار جميع عناصر الظاهرة، وإلا وقعَت في القراءة المجتزَأة والانتقائية.
يطرح السلفي تحديًا هامًّا، وهو: لماذا كلَّما تَصادم التراثُ والحداثة، كان الحل لحساب الحداثة، خاصة أن هذه الحداثة ليست إلا أيديولوجية الغالب والمهيمن على العالم، وهو الغرب وحلفاؤه؟ أليس تحديث الإسلام هو في نهاية المطاف "تغريبُهُ"؟ أليست هناك "سلفية غربية" تقلّد النماذج الغربية، وكأنها الفُضلَى دومًا، تلقائيًّا وبلا نقد؟ هنا يعلِّمني السلفي، أن الحداثي الحقَّ هو من يَنقد في جميع الاتجاهات وليس في اتجاه التراث فقط، فيأخُذ مأخَذَ الجِدِّ الاعتراضَ السلفي، حتى لا تكون الحداثة مجرّد تبرير للهيمنة الثقافية.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.