لو كان رُشد المجتمعات يُقاس بقِدَمها، لكانت المجتمعات العربية أكثرها رشدًا في العالم. إذ نجد لدينا أقدم المدن في العالم مثل جبَيل في لبنان وأرِيحا في فلسطين اللتَين يفوق عمرهما 8000 سنة، كما نجد أعرق الحضارات كالأشورية والبابلية في بلاد ما بين النهرين (العراق)، والفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، وغيرها. ولو كان رُشد المجتمعات يُقاس بنجاح بعض أبنائها، لكانت المجتمعات العربية أيضًا أكثرها رشدًا في العالم. فها نحن نلتقي بعربي ناجح ومُبدع ومساهم في تطوّر البشريّة بشكل مميّز، في العديد من الميادين العلمية أو الاجتماعية. ولكن للأسف، غالبًا ما يكون هذا الشخص قد غادر أرض منطقتنا وانتمى إلى أحد المجتمعات الغربية التي احتضنته، وقدّرت موهبته، وقدّمت إليه الدعم اللازم، والوسائل التي تسمح له باستثمار طاقاته، وتقديم أفضل ما لديه من علم، وعطاء، وإبداع. ومن بقِيَ من هؤلاء المبدعين في منطقتنا، فهم ليسوا أقل نجاحًا من الذين غادروا، ولكنهم حتمًا أقلّ تأثيرًا في الحياة العامة، وأكثر انعزالًا في عملهم ونشاطهم. إذ غالبًا ما يتحوّل عمل المبدعين لدينا من إسهام في تطوير المجتمعات وحياة الناس، إلى نشاط نخبوي فردي، كالاستثناء الذي يثبت القاعدة بأنّ مجتمعاتنا قد انحرفت عن خط الحياة والتقدّم، وهي تسير في اتجاه معاكس للرقي والتنمية المستدامة.
تقول هلن كلارك، مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في مقدّمة "تقرير التنمية البشرية للعام 2016": "التنمية البشرية تعني حريات الإنسان: حرية العيش بملء الإمكانات، لكل الأفراد، ليس للبعض منهم، ولا للغالبية، بل للجميع، في كل مكان من العالم، في الحاضر والمستقبل". فلا عجب إذا كانت الأمم المتحدة ربطت مؤشّر التنمية البشريّة أوّلًا وأساسًا بالحريات، أن نجد الدول العربية متأخرة جدًّا في الترتيب العامّ بين دول العالم. طبعًا يخضع احتساب المؤشر لمعايير عديدة أخرى، أبرزها: الأمن البشري، وحقوق الإنسان، والوصول إلى المعرفة، والصحة الجيدة، وحق تقرير المصير، والكرامة، وعدم التمييز، والمستوى المعيشي اللائق. يتبيّن في هذا التقرير أن معدّل الدول العربية العام، إذا جُمعت وكأنّها منطقة واحدة، يكون 99 على 188 دولة.
إذا أردنا أن نصل إلى يوم نفتخر فيه بواقعنا، ونوعيّة حياتنا، وإسهاماتنا في تطوّر البشريّة، بدل الاكتفاء بتمجيد إنجازات الأجداد في الماضي البعيد، فلا بدّ من أن نسأل أنفسنا: متى تبلغ مجتمعاتنا سن الرشد، وتصبح مجالًا حيويًّا للتنمية والعيش الهانئ، بدل أن تكون عالة على أبنائها وعلى الآخرين؟ لا شكّ في أن الدراسات والتحاليل عديدة في هذا المجال، بدءًا بتحليل مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. لكن، بالمقارنة مع المسار الفردي للأشخاص لبلوغ سن الرشد، تستوقفني شخصيًّا ثلاث علامات تشير إلى هذا النمو المرتجى، وتنطبق أيضًا على مجتمعاتنا، وهي:
أولًا: الراشد هو من ينتقل من موقف الضحيّة إلى موقف الاستعداد لحمل المسؤولية. فرَدَّة فِعل الطفل أمام أيّ حدث غير اعتيادي أو أيّة مشكلة، تكون بوضع نفسه في موقع الضحيّة واتهام آخرين بالمسؤولية. أليس هذا الموقف سائدًا في مجتمعاتنا، تُعبّر عنه "نظريّات المؤامرة" المتنوّعة، والتي تهدف أكثرها إلى إلقاء اللوم على "الآخرين"، والتمَوضع في موقف الضحية التي تفقد القدرة على معالجة الأمور، بل جلّ ما تنتظره اعتراف بواقعها، لا يُقدّم لها سوى حجّة لوجعها أو تخلّفها؟!
ثانيًا: الراشد هو الذي يتعامل مع الموارد المتاحة له كمادة للشراكة والتعاون والتكامل مع الآخرين، بهدف استثمارها وتنميتها؛ أما نحن فغالبًا ما نتصرّف وكأنّنا نتسابق ونتنافس للوصول إلى هذه الموارد، وكأنها غنائم للنهش والاستهلاك، بدل أن تكون أساسًا للخلق والإبداع. فتُشْبه أحيانًا مجتمعاتنا لعبة بيد طفل فكّكها وعطلّها، بدل أن يستعملها أداة للفرح عبر استعمالها مع غيره. فالراشد هو الذي يكتشف أولويّة المصلحة العامة وتنميتها المشتركة، على المصلحة الخاصة؛ لأنّ الثانية لا تتحقّق بشكل حقيقي ومستدام إلّا بتحقيق الأولى.
ثالثًا: الراشد هو الذي يتحرّر من مشاعر الدونيّة أو الفوقيّة، ويتعامل مع الآخرين على أساس المساواة وتقدير المواهب والقدرات الخاصة لديهم. فالقاصر هو الذي يخاف من المختلف عنه؛ أما الراشد فهو الذي يسعى إلى التواصل معه لتوسيع آفاق فكره وحياته ومقدّراته. فما دامت مجتمعاتنا تخاف من المرأة، والمفكّر، والفنَّان، و"الغربي"، والمؤمن بشكل مختلف، والملحد، والمبدع، فسوف تبقى قاصرة عن إدارة شؤونها بنفسها، بحرية ونجاح ومسؤولية.
في النهاية، البشر الذين يعيشون في الدول التي تحتلّ المراتب الأولى في مؤشّرات التنمية، لا يختلفون عنّا في شيء، سوى أنّهم بلغوا بمجتمعاتهم حالة من الرشد، مكّنتهم عبر النضال المشترك من تحقيق مستويات مميّزة لجودة الحياة. فالهدف ليس جَلْد الذات، بل قراءة الواقع الأليم بشفافية، للخروج من حالة البؤس التي نعانيها. فلا سلام مستدام ولا عدالة اجتماعية، إلا بالتنمية التي يحققها مجتمع خرج من حالة الوصاية إلى حالة الرشد، بانتقال أبنائه من موقع المظلومية والتبعيّة والفوقية المتخلّفة، إلى موقع الحرية والمسؤولية والعدالة الاجتماعية.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.