لطالما اشتهرت حلب بعَراقتها كمدينة يعود تاريخها إلى آلاف السنين، تشهد بذلك آثارها وما ذكره المؤرخون والرحَّالة عنها. ويُعبّر كثير من أهلها أحيانًا عن فخرهم الشديد بحاضرتهم وتعصبهم لمدنيَّتهم، إلى حد ترجم مرات بتعامل فوقي مع أبناء المناطق الأخرى. وقد نشطوا أيضًا في التجارة والصناعة، وبرز دورهم كوسطاء أحيانًا، بالإضافة إلى ذيوع صيت مطبخهم الشهير.
عرفَت هذه المدينة عدة عصور ذهبية، منها ما له علاقة بوقوعها على طرق التجارة، واستقطابها لهذا السبب قنصليات وسفارات تجارية غربية، حتى كانت في زمن السلطنة العثمانية ثالث مدن السلطنة بعد إسطنبول والقاهرة، وشهدت مجدًا قلّ نظيره في شرقنا. ورغم العديد من النكبات القاسية عبر تاريخها: كالكوارث الطبيعية، والغزو الأجنبي، والتدمير، استطاعت بدرجات متفاوتة أن تستعيد في كل مرة مكانة ودورًا.
التاريخ المثير للاهتمام لم يأت فقط من أسباب جغرافية كالموقع والمناخ، وقطْعًا لم يكن بسبب أصالة سكانها ونقاء دمائهم "الحلبية"؛ فمدينة كحلب، بحجمها وتاريخها، لا بد لها -لكي تكون ما هي عليه- من أن تكون كوزموبوليتانية، أي مُحتضنةً لثقافات متعددة، ومنفتحة بشكل واسع على العالم. فهي لم تكن لتُصيب هذا الحظ من النجاح والصعود، لولا قدرتها على استيعاب تنوع كبير في سكانها المختلفين عن بعضهم بعضًا في الإثنية، والدين، والثقافة، واللغة.
التحدي الذي واجهته حلب بعد كل كارثة مرّت عليها، هو أن ينجح من تبقَّى من سكانها في استيعاب المتغيرات والسكان الجدد، ليتحوّل هؤلاء بدورهم إلى حلبيِّين، وجزءٍ أصيل من المدينة. على أي حال، لم تنجح حلب ما قبل الحرب، في خوض هذا التحدي كما يجب، وربما جرّ عليها هذا، ما حصل خلال السنوات الأخيرة.
تبدو "الشهباء" منهكة اليوم، وليست في أحسن أحوالها. الحرب دمرت من البنيان الحجري الكثير، ومن البنيان البشري أكثر. الهجرة والنزوح -طوعًا أو قسرًا- أفرغاها من قسم عظيم من سكانها الذين كانوا يقدَّرون بأربعة ملايين. وفي الوقت عينه، قصدها الكثير من الخارج ليلوذوا بها، أو جاءت بهم مصالحهم الخاصة. فحلب التي عُرفت بغناها، صارت هدفًا للمستفيدين من اقتصاد الحرب.
رغم توقُّف المعارك هناك قبل أكثر من سنة، إلا أن الجو العُنفي ما زال مسيطرًا. الحرب فرضت لغة السلاح والعنف، والتخلص من هذه اللغة لن يتمَّ في يوم وليلة. التغير الكبير في سكان المدينة بين هجرة ونزوح يبدو صعب الهضم على سكانها الأقدَمِين، حتى ولو كانت هذه الحركة داخلية بين أحياء المدينة نفسها، إذ نحن اليوم أمام حلب جديدة، وصار من المألوف أن تسمع ابنَ المدينة العائد إليها بعد غياب، يقول: "لم أتعرَّف إلى مدينتي!"، دون أن يقصد بقوله هذا، الأبنية والعمران فقط.
صُلبت حلب قبلًا مرات عديدة بل ودُفنت، إلا أنها عادت كل مرة إلى الحياة، واستعادت عافيتها ورونقها رويدًا رويدًا. يبدو هذا الكلام مع حقيقته التاريخية متفائلًا، بالنظر إلى الوضع الحالي في سوريا عمومًا. لكن الوقت كفيل بكل هذا، إنما بشرط القدرة على استيعاب تنوع بشري جديد، والتفاعل معه ودمجه في المدينة، وإنتاج نُخَب مدنيَّة جديدة تحل مكان تلك التي هاجرت أو هُجِّرت. فلا الدماء النقية لأهل المدينة هي ضمانة نهضتها، ولا العوامل الخارجية وحدها تشكل الثقل الأكبر في كفة تطورها.
يبقى الأهم، وهو أنّ استيعاب التنوع لن يكون حقيقيًّا وفاعلًا خارج إطار المواطنة الحاضنة لهذا التنوع؛ ما يعني ضِمنًا واستطرادًا تحقيق العدالة والمساواة، وسيادة القانون، واحترام الحريات، كل الحريات.
قبول التنوع لا يعني فقط التنوع الإثني أو الديني أو الثقافي، بل يعني أيضًا ودون أي تهاون قبول التنوع الفكري، والتنوع بالآراء. فَفِكر الآخر ورأيه إن كان يُعبّر عنه بطرق لا عنفية، أعْجَبنا مضمونُه أم لا، لا بد أن يُحترم حقه في الوجود والتعبير. أي شيء دون ذلك سيكون مضيعة للوقت، وتأخيرًا في عودة العافية إلى المدينة وإلى البلد.
حلب كحالة خاصة، وكتعبير عن سوريا كَكُلّ، ما زالت على درب صليبها، إذ من المبكر أن نقول مع اقتراب الفصح: إن المدينة قامت. فعسى أن يقترب زمن قيامتها الحقيقية، بجهود جميع أصحاب الإرادة الحسنة وتضامنهم. فنحن على ما يقول المسرحي السوري الراحل سعد الله ونُّوس: "مَحكومون بالأمل".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.