تحدثنا في المقال السابق عن مشاكل التنوع وتحدياته في العراق من الجانب السياسي، وتطرَّقنا إلى بعض القضايا ذات الصبغة السياسية وتأثيرها في التنوع. وسنتناول في هذا المقال البعد القانوني وتأثيراته في التنوع في العراق.
يمكن تقسيم البعد القانوني في إشكالية التنوع على جانبين: أحدهما يتعلق بالمنظومة الدستورية العراقية التي تجاهلت في موادها الإشارة إلى مكونات عديدة تمثل جزءًا من التنوع في العراق، مثل (الزرادشتية، والكاكئية، والبهائية، واليهودية)، حيث حصرت المادة (2/ ثانيًا) من الدستور الاعتراف بالأديان الثلاثة (المسيحيين، والأيزيديين، والصابئة المندائيين)، وتجاهلت بقية العقائد والأديان الموجودة في العراق، وحُكِم على أتباع هذه الطوائف أن يبقوا قلقين بين هويتهم الدينية المستقلة، وانتمائهم المذهبي الديني الذي يراد أن يكونوا عليه؛ فكانت الكاكئية فرقة إسلامية صوفية على الرغم من اعتراض أعداد كبيرة من أتباعها، والبهائية فرقة شيعية ذات طبيعة خاصة على الرغم من عدم قبول غالبية أتباعها هذه النظرية، واليهودية ديانة يوجد أتباعها في العراق، ولم يحصل التطرق إليها على الرغم من اعتراف قوانين وأنظمة عراقية بها، كنظام الطوائف الدينية سنة (1982) الذي اعترف بالطائفة الموسوية. والزرادشتية ديانة حديثة الوجود في كوردستان رغم وجودها في العراق منذ نشوء حضارته.
إن تحديد المادة المذكورة للأديان على سبيل الحصر أعاق وجود باقي الأديان غير المذكورة، فولَّد لها إشكاليات قانونية في تكييف نفسها في محيط العراق بأشكاله كافة، إذْ عدمُ ذكرها في الدستور ولّد عائقًا كبيرًا لها عن إبراز نفسها كأديان مستقلة إلى جانب أديان أخرى. وما زالت تدافع هذه الأديان -غير المذكورة في المادة آنفًا- عن ثغرة لشرعنة وجودها الدستوري إذا صح التعبير، كاحتكامها إلى المادة (125) التي أشارت إلى (احترام الحريات لسائر المكونات الأخرى)، وكذلك مطالبتها بتعديل الدستور وإضافته إلى باقي الأديان المذكورة. وأعتقدُ خطأَ المشرِّعِ الدستوري العراقي في حصر الأديان الثلاثة إلى جانب الإسلام في العراق، إذ كان لا بد من أن يُعطي الحريةَ الدينية للأديان الأخرى مساحةً بشكل أوسع، خاصة وأن العراق بلد غني بتنوعه الديني.
أما الجانب الثاني للبعد القانوني في إشكالية التنوع، فقد أتى حين حملت المادة المذكورة جدلًا في تفسير فقراتها، التي مثلت عائقًا أمام تمتع الأديان بحرية دينية في معالجة قضاياها بالصورة القانونية السليمة، حيث اشترطت المادة (2 / أولًا /أ) من الدستور (عدم سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام). جاءت عبارة (ثوابت الإسلام) مطلقة بدون تقييد، والمعروف أن ثوابت الإسلام تختلف من مذهب إسلامي إلى آخر، وهذا ما طالَبْنا في مؤتمرات وندوات عديدة المحكمةَ الدستورية (الاتحادية) بتفسيره، لكونها تمثل عائقًا بتمرير العديد من القوانين التي تخص الأقليات الدينية، كقانون البطاقة الوطنية (26)، وقانون واردات البلديات المتعلق بمنع المشروبات الكحولية. وقد تُمثل هذه الفقرة حجر عثرة في المستقبل، للعديد من مشاريع القوانين التي من الممكن أن تحمي التنوع والحريات الدينية في العراق. ولهذا، أعتقد أن من الأهمية مطالبة الأقليات الدينية بشكل رسمي المحكمةَ الدستورية (الاتحادية) المختصة، بتفسير نصوص الدستور في العراق، وأن تعطي هذه الفقرة تفسيرًا، وتعريفًا بالتحديد لـ(ثوابت الإسلام)، كما فعل القضاء التونسي، حتى تعطي الأقليات مساحة في رسم الغطاء القانوني في إطار ذلك.
إلى جانب ما ذُكر يوجد نصوص دستورية جدلية كثيرة تمثل عائقًا عن حل قضايا التنوع في العراق، قد لا يتسنَّى المجال لمناقشتها بعمق وإسهاب في هذا المقال، منها المادة (140) التي هي أكثر جدلًا في الدستور، والمتعلقة بالمناطق المتنازع عليها، والتي يسكنها المكونات والأقليات العراقية بشكل كبير، حيث حددت هذه المادة آليات حلِّ هذه المادة وتطبيقها من خلال تفعيل المادة (58) من قانون إدارة الدولة الذي كان يمثل دستورًا في عهد بريمر، حيث حددت هذه المادة والتي هي الأساس للمادة (140)، حالات حل إشكالية المناطق المتنازع عليها (بالإحصاء، والتعويض، والاستفتاء). والجدلية الأخرى في المادة (125) المتعلقة بالحقوق الإدارية والثقافية للمكونات، حيث لم تُشِرْ إليها المادة إلى أن يجري تنفيذها بقانون. وما زال البرلمان لم يتناول تشريع هذا القانون، فضلًا عن بعض المكونات كالبهائيين والكاكئيين الذين يطالبون بتفعيلها؛ لكونها لم تحدد المكونات وإنما جاءت مطلقة. والمادة (65) المتعلقة بالمجلس الاتحادي الذي يمكن أن يمثل فيه المكونات، بالإضافة إلى المادة (41) المتعلقة بالأحوال الشخصية التي أعطت كلَّ مكون الحق في تنظيم شؤونه الشخصية بقوانين، في حين يرى بعضهم أن هذه المادة تنسف مفهوم المدنية في العراق.
في المقال القادم سنتناول الجانبَين الديني والاجتماعي لمشاكل التنوع وتحدياته في العراق.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.