بعد تقديمنا في المقالين السابقين للأبعاد السياسية والقانونية وتأثيرهما في التنوع في العراق، نأتي هنا لنتناول الجانبَين الديني والاجتماعي وكيف مثَّلَا تحديًا وإشكالية للتنوع في العراق.
العراقيون بوصفهم شعبًا، لم يعتادوا دولة دينية أو حياة دينية متشددة، وإنما كان الدين سلوكًا اجتماعيًّا إنسانيًّا. لا يخفى ظهور نزعات متطرفة بين مدة وأخرى، ولكن الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ تأسيسه، كانت تأخذ في الإطار المدني للتعامل مع الدولة لمعرفتها المسبقة بالتنوع العراقي، كذلك المناخ العام لم يكن يطغى عليه الجانب الديني في ذلك الوقت. فدستور (1925) الأساسي للعراق هو أول دستور أضفى الطبيعة المدنية على العراق في نصوصه، وكان للبريطانيين دور في صياغته. وكذلك دستور (1958) (الجمهورية العراقية الأولى) كان المد الشيوعي في العراق بكل قوته قريبًا من السلطة، فرسَمها أيضًا بصورة مدنية، وكذلك دستور (1968) ودستور (1970) المؤقت، لم يختلفا في سوى بعض القضايا القومية.
وبعد سنة (2003) تغيرت طبيعة الواقع الاجتماعي العراقي، على الرغم من أن الدستور العراقي حاول إعطاء الصفة المدنية، ولكن لم تُفعَّل نصوصه بشكل صحيح، وأخذت السلطة السياسية تتأثر بالجانب الطائفي بوصفه شرعية لوجودها، بالإضافة إلى المناخ العام الإقليمي والدولي والمحلي الذي كان يتجه نحو التطرف الديني؛ فانتشرت الأفكار الدينية، وأخذ السلوك الديني يجتاح الشخصية العراقية متأثرًا بالمناخ السياسي، فأدى إلى ظهور حركات متطرفة جدًّا. فاعتقاد السنة بتهميشهم بعد سنة (2003) جعلهم يلجؤون إلى المقاومة والحركات المتطرفة، كسبيل إلى التعبير عن مظلوميتهم أو رفضهم للواقع الحالي، فنمَت مجاميع التطرف في محافظات مثل الموصل والأنبار (بعضهم وليس جميعهم). من الجانب الشيعي أيضًا بدأت تُرفد مجاميع منهم بأفكار طائفية من دول إقليمية أثَّرت في المناخ الاجتماعي في وسط العراق وجنوبه، فاستُغلت المناسبات الدينية في بعض الأحيان لإضفاء طابع ديني في الشارع والمؤسسة، وكانت الانتخابات الأولى سنة (2005) التي أعطت الطائفية السياسية الغطاء الشرعي من خلال قوائم انتخابية؛ ما تمخَّض عن زيادة حدَّة الشحن الطائفي، ونتج منه صراعات الطائفية (2006-2007).
ولم يكن ذلك بعيدًا عن مشهد التنوع وإنما أثَّر فيه بشكل كبير، فظهرت المسميات الدينية والطائفية، وبدأ الابتعاد عن الرؤية الوطنية والمواطنة الجامعة في حاضنة الوطن، ولم يقتصر هذا على الشيعة والسنة، وإنما امتدت العدوى إلى المسيحيين والأيزيديين والمندائيين بأشكال وصور مختلفة.
من الناحية الاجتماعية أيضًا، عاش العراق بانغلاق نوعي منذ سنة (1968) عندما سادت الأفكار القومية التي أثرت في الفرد العراقي، وتبع ذلك الأفكار الحزبية التي اختزلت كل التنوع في الحزب فأُلغيت المسميات جميعها، وكان لا صوت يعلو في العراق سوى صوت (البعث) كحزب وإيديولوجية، وحصّنه صدام حسين قائلًا بأن: "حصانة البعثي كحصانة عمر بن الخطاب". هذا السلوك أضفى مركزية ودكتاتورية على الدولة، وحَرَم الأقليات المتنوعة في العراق التعبير عن نفسها إلا من خلال الحزب وإيديولوجيته القومية. فلم يكن ابن البصرة المسلم على معرفة بالأيزيدية، ولم يكن ابن الموصل على معرفة بالمندائية في الجنوب، وكان التعارف الوحيد وغير المنظم هو التجنيد الإلزامي، حيث كان الجميع تجمعهم الوحدات العسكرية.
وإلى غاية الآن يتناول العراقيون قصصًا عن معرفتهم بالمكونات، ليس من خلال منهجية علمية صحيحة، وإنما من خلال سلوك عسكري عفوي خلقته الصدفة في جمع شاب أيزيدي أو مسيحي، مع مسلم شيعي من البصرة. وهكذا، كانت المعرفة سطحية، فيها الكثير من الجهل والتجني على الآخر في بعض الأحيان. (فالأيزيدي في نظر أهل الجنوب له ذيل في مؤخرته، والشيعي لدى بعضهم أيضًا والصابئي، يأكلان الطيور المخنوقة، وغيرها من الصور النمطية الخاطئة التي كانت تُرسم تجاه الآخر بناءً على سلوك يومي وتصرف شخصي).
إن سياسة البعث كانت تعمل على تفكيك المكونات وإسقاطها وخلق احتراب وشحن في ما بينها، تتحكم في أدواته الدولة، ومتى ما أرادت طورت هذا الشحن إلى حروب مسيطر عليها من قبلها كدولة بوليسية، كبثِّها مثلًا دعاية كاذبة لاشتراك الأيزيدية في ضرب مرقد الإمام الحسين أثناء الانتفاضة الشعبانية 1991، وما زال قسم من الشيعة يصدق ذلك.
إن عدم انفتاح المكونات على بعضها، وضعف المناهج والإعلام في تسليط الضوء على التنوع منذ تأسيس الدولة العراقية أو لنقل منذ (1968)، خلَقَا جهلًا لدى العراقيين بتنوعهم وعدم معرفة بعضهم بعضًا، وتطوَّر هذا الأمر إلى غاية (2003). وبعد هذا التأريخ نمت الديمقراطية والحرية بعض الشيء، وبدأت هذه المكونات والأقليات تظهر وتعبِّر عن نفسها بشكل واضح وقوي، وتطالب بحقوقها التي جرى تغييبها لسنين. ولكن، على الرغم من ذلك استمر الجهل بالآخر؛ لعدم قيام الحكومات المتعاقبة منذ سنة (2003) بوضع إستراتيجية سليمة لمكافحة التطرف، وتعريف التنوع، ومعرفة الآخر. وهو ما يحتاج إليه العراق الآن من منهجية واضحة وإستراتيجية حكومية؛ لتعريف التنوع ومعالجة إشكالياته بالشكل الصحيح، بما يضمن مواطنة صالحة للتعايش، تحمي التنوع في البلاد.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.