مقالات

يبدو أن الموجة العامة من الوعي، التي لاحظناها في موسم الأعياد المسيحية هذا العام، لم ترُق للمتشددين. التهنئة وحالة الفرح العام والوقوف في وجه أصواتٍ نشاز، تخرج كل سنة لتحرض على عدم مشاركة المسيحيين في أفراحهم أو عدم تهنئتهم، أثارت غضب فئة تعتاش على التفرقة؛ إذ وجدت سببًا لإحياء تعصب طائفي، ووقودًا لإشعال الجدل في وسائل التواصل الاجتماعي، عن حرية الطائفة المسيحية في المعتقد والتعبير في الأردن.

الأمر لم يتطلَّب أكثر من تغريدة واحدة تحمل صورة لتمثال السيد المسيح، الموضوع في إحدى مناطق مدينة الفحيص، مع كلمات يعبِّر فيها كاتب التغريدة عن غضبه من عودة التماثيل والأصنام الممنوعة في الإسلام، على أرض بلد يدينُ معظم سكانه بالديانة الإسلامية. ما إن انتشرت الصورة حتى اشتعلت وسائل التواصل بحمم الطائفية، وطالب الكثير من أصحاب الحسابات بإزالة هذا التمثال، مشبِّهين إياه بأصنام الجاهلية وأوثانها، بل إن بعض التعليقات تخطت الانتقاد إلى الكراهية الواضحة، دون وجود رادع حقيقي لوقف كرة الحقد من التضخم والتدمير. 

من المهم أن نوضح أن مدينة الفحيص هي مدينة أردنية جميلة، تبعد عن العاصمة عمان مسافة 15 كيلومتر. المدينة مميزة بطابعها المسيحي، وأغلب سكانها من المسيحيين. أما التمثال فقد وضع في مكانه ببادرة من نادي شباب الفحيص، حيث لم يتوقع أحد أن تلقى كل هذا الهجوم، وتنتهي بإزالة التمثال ونقله إلى إحدى المقابر الخاصة بالمسيحيين.

كانت الضغوط الاجتماعية أكثر من أن يحتملها سكان الفحيص، فآثروا التراجع منعًا للفتنة. كان حدثًا مؤلمًا طرح تساؤلات حول اتجاه الرأي العام، الذي يبتعد شيئًا فشيئًا من قيم التنوع التي اعتادها الشعب الأردني، وحول النزعة لدى جماعات دينية لاستغلال هذه الاتجاه العام، في محاولة منها لتهميش الآخر باستخدام أسلحة التواصل الاجتماعي، وللـتأثير -باستخدام الترهيب بالعقاب الرباني للمسلمين- في موافقتهم على وجود أشكال من التعبير عن معتقد مختلف. ليغيب عن بال المتعصبين هنا الفرق الشاسع بين امتناعهم عن ممارسة أمر يتعارض مع فهمهم للدين، ومنع الآخرين من المؤمنين بعقائد أخرى عن هذه الممارسة.

من الطبيعي أن تسمع تلاوة القرآن الكريم في المحلات التجارية في أي وقت من أوقات النهار، في العاصمة عمان ومعظم مدن الأردن. الآيات القرآنية والأحاديث النبوية موجودة في كل مكان، وفي كل الأسواق، ولم يعترض الزبائن المسيحيون يومًا على وجودها، ولم تهتز مشاعرهم. فلماذا يُمنعون من وضع تمثال يمثل رمزًا مقدسًا لهم، في مدينة أغلب سكانها مسيحيون، ولا يقصدها إلا الراغبون في السياحة الداخلية والتجول في المدن؟ وبالتأكيد، هؤلاء المعترضون معجبون بالاختلاف الذي تظهره المدينة، ويميزها عن غيرها من المدن الأردنية، ويَظهر فيها جمال التنوع الديني والانسجام. 

الغريب أنك عندما تزور حسابات المهاجمين، تجدهم هُمْ أنفسهم يحاربون من أجل حرية الأقليات المسلمة في الدول الأخرى في المعتقد والتعبير، ويحتفلون بسماح الطيران البريطاني للمضيفات المسلمات بارتداء الحجاب، ويحتجون على غلق بعض المراكز الإسلامية في السويد، حتى وإن كان بسبب مخالفتها لقوانين البلد، ويطالبون بمقاطعة فرنسا والصين لأسباب شبيهة. هذه الحسابات أصحابها يعانون الازدواجية، ولا يهمهم حرية المعتقد أو التعبير إلا إن كان أبناء طائفتهم هم المعنيُّون.

ثم إنه من المؤلم ألَّا يشهد الرأي العام هبَّة اعتراض قوية واحدة، على الأزمات الاقتصادية والتدهور والبطالة، كما هبَّ بصوت قوي أمام تمثال وضع في مدينة ذات طابع مسيحي، وقد لا يزورها المواطن من المدن الأخرى إلا قاصدًا، أو كما يهبُّ في وجه كاتب قيل إن روايته خدشت حياء من قرأها، علمًا بأن القراءة ليست في أحسن أحوالها؛ ما يفتح باب التساؤلات أمام غض النظر والتساهل مع تلك الهبَّات لأهداف سياسية، أو لتفريغ الغضب الجماهيري، حتى لا يطول هذا الغضب أمورًا معيشية، وأزمات سببتها سياسات الحكومات المتعاقبة. فإن صح الأمر، وظهر أن التغاضي عن خطاب الكراهية مقصود، فإن الأجيال ستدفع ثمنًا غاليًا لا يعوَّض، والوطن سيتكبَّد خسارات عظيمة. 

إن التضييق على المواطن المسيحي في معتقده يجب أن يُجرم، لأنه يهدد النسيج الوطني الذي ساهم هذا المواطن في حياكته وإثرائه، ولأنه من الواجب أن يحق للمسيحي ما يحق للمسلم على أساس المواطنة التي تجمعهم. ثم إن الدستور الأردني يكفل حرية المعتقد، والوطن يجمع تحت مظلته كل أبنائه من كافة الأديان والطوائف، حتى الملحد أو اللاديني، لأنه ينتمي إلى هذا الوطن، وله ما لكل مواطن من حقوق. والمسيحي هو ابن هذا الوطن، وجذوره ضاربة في أرضه، وتشهد الكنائس والأديرة التي يزورها السياح من كل مكان في العالم، على أهمية هذا الوجود الحضاري، الذي يجب أن نحافظ عليه ونحميه.