بعد أخذ ورد وتصعيد استمر عدة أسابيع، وعلى إثر استغلال وجود نزعات انفصالية في أجزاء من أوكرانيا، فعلها الرئيس الروسي وأدخل قواته أراضي أوكرانيا "غازيًا"، تحت ذرائع تبدو واهية، وتثير من المشاكل أكثر مما تُقدم حججًا يستند إليها لإجراء عمل عسكري لا يمكن الاقتناع بحسن دوافعه، حتى ولو أطلَق عليه أصحابه صفة الدفاع. أيضًا من حيث التعبير، يبدو مجرد استعمال لفظة "غزو" في الوقت الحالي، عودةً إلى زمان غابر، أو تشبثًا بزمن افترض فيه "الحالمون/ات الأبرياء" أن البشرية تجاوزته، لتأتي حجج تبريره، وتزيد من الشعور بالألم والمرارة والعجز.
من حيث المبدأ، تبدو الاستعانة بحجج تاريخية حول نشوء أوكرانيا بصفتها دولة، وارتباطها العضوي بالاتحاد السوفيتي البائد، شديدة الإشكالية. فإلى جانب ضعف هذه الحجج، يعزز الركون إليها عودة إلى مفاهيم سادت عصورًا ماضية مظلمة، ونقضًا لمبدأ حديث نسبيًّا اعتُبر انتصارًا للإنسان، هو مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. تفتح هذه السردية التاريخية الباب واسعًا لنزعات ديكتاتورية وأحلام توسعية، وربما عوارض جنون العظمة، في أماكن عديدة حول العالم. فتغذي طموح شعبويات صاعدة، تمتلك ما يكفي من القوة وأوراق الضغط، لكي تحيي أو تختلق مطالب تاريخية بالاستحواذ على هذه الأرض أو تلك من أراضي الجيران، تحت مسمى الأحقيات التاريخية أو الإيديولوجية أو الدينية. فمن يغلق بابًا كهذا، فتحته روسيا -بالفعل لا بمجرد القول- في حالة أوكرانيا؟
على صعيد آخر متصل يثير كثيرًا من الأسى والانزعاج، يبرز دور "المتنمر"، الذي تلعبه دولة قوية عسكريًّا تمتلك الكثير من الأوراق. فعصا "الغازِ الروسي" الذي يشكل عصبًا حيويًّا من أعصاب الحياة في أوروبا الغربية، والصعب استبداله في المستقبل القريب، تلوِّح بها روسيا أمام أنظار المعنيين من قادة أوروبيين خائفين على اقتصادات بلادهم، أو من نتائج تصويت الناخبين/ات في مناطقهم. وفي وقت تجتاح فيه القوات الروسية أراضي الجار الأضعف، تقبع الأمم المتحدة -لا حول لها ولا قوة- أمام احتمالات الفيتو الروسي، وربما الصيني أيضًا في مجلس الأمن، في حين أن أي قرار صادر عن الجمعية العامة يبقى ذا أثر معنوي لا فائدة عملية منه.
بعد كل ما حصل، أو سيحصل خلال القادم من الأيام، كيف يمكن لأحد أن يقنع دولة نووية بأن تقبل نزع سلاحها مقابل ضمانات أمنية؟ فأوكرانيا مثلًا تخلت سنة 1994 عن ترسانتها النووية، مقابل ضمانات من روسيا نفسها والولايات المتحدة وبريطانيا! ثم كيف يمكن لدولة طامحة إلى الاستقواء بسلاحها النووي الخاص بحجة الردع، أن تقتنع بمنطق السلام وحسن الجوار وسلطة المجتمع الدولي؟
الأخطر من ناحية أخرى، هو الجانب الديني للصراع. فالرئيس الروسي الذي كثيرًا ما انتشرت له صور في الكنائس والصلوات، وهو يوقد شمعة في مزار، أو يرسم إشارة الصليب، أو يجتمع ببطريرك، قُدم على اعتبار أنه الرئيس المسيحي، والرئيس المؤمن القوي. هذا النوع من الصور وذلك المفهوم، انتشرا بسرعة، وجرى الدفاع عنهما حتى من قبل مسيحيين/ات في بلادنا العربية، وسُوِّق التدخل العسكري، الذي قُدم في مناسبات ماضية وحالات بعينها بخلط وتشويه غير بريئين، على اعتبار أنه تدخُّل رئيس مسيحي لدعم أنظمة تحارب التطرف الإسلامي.
تُصور هذه الرؤية الصراعات السياسية والعسكرية الحاصلة بخلاف الحقيقة، أيْ على اعتبار أنها حروب دينية إسلامية مسيحية. وتعاكس أيضًا المفهوم المسيحي التقليدي، بشأن الحروب التي قدمها القديس أوغسطينوس في تعليمه بشأن "الحرب العادلة"، وهي حرب تبدو مستحيلة الحصول إن جرى التزام شروط أوغسطينوس.
يخيف في الكثيرين/ات من مؤيدي هذه الصورة لرئيس مسيحي قوي، والمروجين لهذا الفهم للدين والسلطة، تمجيدهم القوة والقوي، وقبولهم أساليب الفرض والعسكر، وتسخيفهم قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ إذ يعيد صاحب الصورة تفسيرها على مزاجه ووفق أهوائه. فيفرغ الديمقراطية من مضمونها الفعلي، ويطيح بمعارضيه، ليبقى حاكمًا في -الضوء أو في الظل- عشرات السنوات.
حدثت الحرب اليوم، فوقع كثير من مؤيدي صورة الرئيس المسيحي القوي في حيرة من أمرهم. فالعدو الذي يحاربه هذا الرئيس اليوم ليس مسلمًا، ولا غير مسيحي، بل الطرفان مسيحيان، وهما في الغالب من طائفة واحدة تقريبًا. ولكن يبقى السؤال: "هل يؤيد الفهم الرشيد للمسيحية (الديانة التي مات مؤسسها قتلًا)، سلطة سياسية متجبرة متنمرة؟ وأي فهم أو تصور نمتلكه لله وللدين عندما ندعم سلطة تحتقر حقوق الإنسان وتستهين بالحريات، وفي الوقت نفسه تعلن -عن حق أو عن باطل- إيمانها المسيحي، وترتاد الكنائس، وتقبِّل الأيقونات، وتضيء الشموع؟".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.