ترتبط فكرة الأوطان بمبدأ بناء السلام بين مكوّنات المجتمع وأفراده، الذين ينخرطون في عقد اجتماعي مشترك، ينتقل بهم من حالة الصراع لاحتكار السلطة والخيرات لهذه الفئة أو تلك، إلى حالة التنافس من أجل تحقيق الخير العام للجميع. فالوطن ليس هدفًا في حد ذاته، بل الإنسان وتحقيق أمانه وهنائه هما هدف الأوطان. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الانتماء الوطني لا يتناقض مع الانتماءات الخاصة، كالعائلية أو الدينية أو الإثنية أو غيرها، ولا يلغيها. ثم إنه لا يتنافس مع الانتماء الأوسع إلى الإنسانية والعائلة البشرية الواحدة، بل يشكّل مساحة دينامية وواقعيّة لتَحقُّقها.
لهذا السبب، يَدخل المواطنون/ات في شراكة بعضهم مع بعض عبر مؤسسات الدولة الحاضنة للجميع، مُنتقلين من البحث عن تحقيق ذاتهم الاجتماعية عن طريق القبيلة أو الطائفة أو أي كيان خاص آخر، إلى تحقيقها ضمن النطاق الوطني الأرحب، الذي يتميّز بقدرته على تحويل الغرباء وفق الانتماءات الخاصة، إلى شركاء عبر المصلحة الوطنية المشتركة. ولِكون خير الإنسان هو غاية الأوطان، تَدخُل هذه الأخيرة في تحالفات فيما بينها تُعزّز تحقيق غايتها، عبر توفير مزيد من الاستقرار والسلام العابر للحدود والتنمية المستدامة.
صحيح أن هذا الكلام نظريٌّ إلى حدّ ما؛ إذ نشأ عدد من الدول نتيجة صراعات وحروب، أدّت إلى هيمنة مجموعة على بقعة من الأرض، حوّلتها إلى دولة تحت سلطتها، دون إرادة قِسمٍ من القاطنين/ات بها، أو حتى بعكس إرادتهم. وفي حالات أخرى، تشكَّلَت أوطان بفعل اتفاقات بين قوى مستعمرة، رسمت حدود هذه الدول الناشئة وفق مصالحها، وليس بالضرورة بشكل ينسجم مع رغبة المواطنين/ات ومصلحتهم. وفي حالات أخرى أيضًا، استأثرت قوى معيّنة بالسلطة، وسخّرت مقدّرات الدولة ومؤسساتها لتأمين بقائها والاستفادة الخاصة من خيرات المجتمع العامة، وجعلت من سائر المواطنين رعايا لها. وتوجد أيضًا قوى تستغلّ وجودها في السلطة لتحويل مفهوم الوطن إلى مشروع إيديولوجي كوني، يتحقّق خارج حدوده. فتصبح خيراتُ هذا الوطن مسخّرة لصراعات وأجندات دولية، وحياةُ أبنائه وبناته مرتهنة بمشاريع لا تعود عليهم إلّا بالموت وتوارُث الأحقاد.
يدلّ هذا البَون بين فكرة الوطن والواقع المعقّد والمأساوي أحيانًا، على أن الأوطان لا تتحقّق يوم إعلان استقلالها أو نشوئها الرسمي، بل تَحقُّقها يرتبط بصيرورةٍ هي قيْدُ التشكّل باستمرار. ولهذا السبب، تُناضل كل الأجيال بطرق شتى بُغْية تَحقُّق الوطن بمعناه السليم. ولا يحتكر جيل "المؤسّسين" هذا النضال، وإن اتخذ أحيانًا نضالُهم بُعدًا تأسيسيًّا حاسمًا، غالبًا ما يرتبط باستقلال الدولة وتحقيق سيادتها. على أهمية تأمين سيادة الدولة على أراضيها وحدودها بوصفها منطلَقًا إلى تَشكُّل الوطن، يبقى هذا المسار مرتبطًا بسبعة عناصر أخرى، ينبغي لِلمواطنين/ات من خلال المجتمع المدني -إضافة إلى مؤسسات الدولة- العمل على تحقيقها وحمايتها وتطويرها باستمرار. فبرأينا، لا يكفي أن نقيس نجاح الأوطان وفق مؤشرات السيادة أو الدخل والنمو الاقتصادي، بل عبر شبكة من المؤشرات التي تصف مستوى التنمية الشاملة للإنسان والمجتمع، والتي ترتبط بالعناصر الآتية:
أولًا لا سيادة منجَزة إنْ لم تترافق مع ضمان لحرية المواطنين/ات داخل الأوطان.
ثمّ تأتي ثانيًا العدالة، بهدف تأمين الأمان لجميع المواطنين/ات والمقيمين/ات، بلا تمييز أو استنسابية فئوية أو طائفية أو حزبية. فالعدالة لا تنفصل عن مبدأ مساواة الجميع أمام القانون، وعن حقِّهم في التنعّم بحقوقهم وحرياتهم على هذا الأساس. وهي الأداة التي تَمنع بواسطة أجهزة الدولة أيَّ فرد أو فريق، من ممارسة الترهيب أو العنف على الآخرين. إذًا، العدالة هي المصدرُ الحقيقي للأمان، وليس الأمنُ وأجهزته الذين يقتصر دورهم على تطبيق العدالة، وليس قمع الحريات كما يجري في بعض الحالات.
وثالثًا، العدالة لا تنفصل أيضًا عن العدالة الاجتماعية، التي تضمن للجميع الحياة الكريمة، عن طريق تأمين المسكن والاستشفاء والتربية والعمل، مع المساواة في الفرص للجميع. يحتاج هذا المسار رابعًا إتاحة المشاركة للجميع في الحياة العامة، وفق الأصول الديمقراطية، واحترام الرأي المختلف والتنوّع في المجتمع.
الوطن هو خامسًا مسرح التخطيط والتنفيذ لتنمية شاملة ومستدامة.
كما هو سادسًا البيئة، التي تتجلّى وتنمو الثقافة فيها بمختلف أبعادها وروافدها ومكوّناتها، التاريخية والتربوية والفنية والإبداعية.
وسابعًا وأخيرًا الوطن يحتاج أن يعيش في بيئة دولية، ينمو فيها السلام والعلاقات المتبادلة السليمة، وإن تَطلّب ذلك واقعيًّا الاستعدادُ الدائم لمواجهة الاعتداءات. فالاستقرار الداخلي في الأوطان، يحتاج إلى سياسة دولية مستقرة وهادفة إلى السلام.
في الختام، ينجلي بوضوح أن الأوطان تبقى كيانات سريعة العطب، وهي تستمدّ مناعتها وقوّتها من تَوجُّه سياساتها نحو الغاية التي وُجدت من أجلها، ألا وهي الإنسان.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.