تعرف مؤسسة أديان المواطنة على أنها الانتماء الفاعل إلى كيان وطني عام، تؤمن التمتع بالحقوق والحريات، وتشكل حيزًا للتفاعل الإيجابي بين المواطنين، والمشاركة المسؤولة في الحياة العامة، على أساس احترام القانون ومنظومة القيم العامة المشتركة. لبنان أحد أبرز البلدان التي تحوي التعددية؛ ما يجعل المواطنة أمرًا ضروريًّا للعيش معًا، بين أبناء هذه البقعة الجغرافية الغنية بتنوعها الثقافي والديني والإنساني.
فكيف نستطيع الحفاظ على المواطنة وتطبيقها، في ظل هذا الكم الهائل من الانتماءات التي تُشكل العديد من المطبات في سبيل تحقيق ذلك؟ وهل يمكن للمواطن اللبناني أن يتخلى عن عناده الطائفي والحزبي، وأن يقضي على الفساد المنتشر تحت عناوين طائفية، ويدمر هيكل الفساد المتأصِّل؟ والأهم: كيف يمكننا تربية أجيال تؤمن بالمواطنة، من أجل لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه؟
مؤسف أن بعض اللبنانيين/ات يحافظ على انتمائه إلى مسقط رأسه، لكنه لا ينتمي بشكل عام إلى كل شبر يُطلَق عليه اسمُ أرض لبنانية، لأنه قد لا يشعر بالانتماء الحقيقي النابع من المواطنة. فالمواطنة تنطلق من الأبعاد السياسية والاجتماعية وغيرها، ولو حقق اللبناني مشاركته الفعالة في الحياة السياسية، لوجدنا إيمانه المطلق بالمواطنة يتسع أكثر فأكثر برأيي، ولو استطاع المواطن اللبناني التعبير عن آرائه ومواقفه وتطلعاته، ورأى التطبيق الفعلي للمساواة بينه وبين كافة المواطنين/ات، لوجدنا سعيَه الدائم من أجل تحقيق المواطنة مع أخيه في الوطن، ولو تَمكن اللبناني من الحصول على كامل حقوقه التعليمية والصحية والعملية، التي تُمكنه من تأمين مستلزمات حياته اليومية بالحد الأدنى، لوجدنا صوته المنادي من أجل المواطنة في لبنان.
كل هذه العناوين جعلت فئة من اللبنانيين تؤمن بأن الطائفة، والانتماء الحزبي الذي لا يراعي الانتماء إلى الوطن، هما السبيل الوحيد إلى النجاة، لا سيما عندما ترى تقسيمات الدولة المبنية على المحاصصة الطائفية، حيث لا يحق لأي لبناني الترشح لأي منصب مخصص لطائفة غير طائفته.
التقسيم الطائفي يبدأ من رأس الهرم، حتى صغار الموظفين في الجهاز الإداري. وهذا القرار التطبيقي يعود إلى الميثاق الوطني، الذى وقّع عليه الرئيسان بشارة الخورى ورياض الصلح عام 1943، بعد إنهاء الانتداب الفرنسي وإعلان دولة لبنان الكبير. وبعد انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 إلى عام 1990، اجتمع الفرقاء اللبنانيون في الطائف، واتفقوا على تعديل نسب التمثيل الطائفي مع الإبقاء على جوهر النظام الموقَّع عليه سابقًا؛ ما عزز الانقسام الطائفي وساعد على توسيع دائرة الفساد. ومع الدعوات الكثيرة التي رُفعت، ومنها دعوة السيد موسى الصدر إلى دولة المواطنة، التي تُمهد لإلغاء السُّقوف المتعددة للمواطَنِيّة وقيام الدولة المدنية، حيث يتساوى فيها المواطنون/ات في الحقوق والواجبات، ويجري استبعاد العامل الطائفي، ويزيد تعميق الطابع الإيماني، فتصبح الأديان والمعتقدات واحدة بهدفها عندما تلتقي في الله وخدمة الإنسان (مركز الأبحاث والدراسات التربوية)؛ نجد أن كل هذه الأسباب السابقة وتَبِعاتها جعلت الولاء الأول والأهم للطائفة، وجعلت لبنان يدخل العناية الفائقة، ولم يعد في إمكان أحد أن ينتشله من حفرة الطائفية؛ ما أدخله في عتمة الفساد المستدام !
صحيح أن المُواطن هو أضعف الحلقات في المعادلة، والذي أغرقه الفساد خسارةً، إلا أنه الحلقة الأساس من أجل مكافحة الفساد. فلو أردنا شرح مصطلح الفساد (أكثر الكلمات تداولًا في الشارع اللبناني)، لكان اختصار ذلك هو غياب السلطة، وسوء استخدام دورها، واستغلال المواقع الرفيعة من أجل تحقيق أهداف وأرباح خاصة. هذا الفساد المؤذي لِـ10452 كيلومتر مربع، نراه فسادًا مشروعًا عند أتباع المفسدين، حيث جعل المواطنة تفقد صلاحيتها وصدقها بين اللبنانيين/ات. فـلو فكَّر اللبناني/ة في وطنه الذي يحتضر، ونتائج الفساد التي ذهب ضحيتها العديد من أرواح الأبرياء، لوَقَف في وجه كل فاسد، ونادى من أجل المواطنة وتأسيسها، في بلد لا نقرأ فيه عن الوطنية والمواطنة إلا في كتاب التربية المدنية الذي لم يعد يجدي نفعًا، ولرَفَض أيضًا ضعف لبنان من أجل جيل جديد يحلم أن يبقى على قيد الحياة.
إننا اليوم يجب أن نطالب بإلغاء الطائفية السياسية، ونريد تشريع قانون انتخابي عادل يكون محل اطمئنان لدى كل اللبنانيين/ات، ونطمح جدّيًّا إلى تأسيس نظام دولة مدنية تحترم الحريات الدينية. وأعتقد أن أهم نقاط البداية هي إعداد المناهج التربوية والتعليمية، وتطويرها بما يعزز الانتماء الوطني، والانفتاح الروحي والثقافي، وفكرة أن الهوية اللبنانية هي الروح التي تجمعنا، وأن قبول الآخر والتنوع هو واجب إنساني لزرع ثقافة المواطنية وحب الوطن، دون التعلق بالمشاريع الداخلية والخارجية التي يمكن أن تدمر كيانه.
إن الأمل معلَّق على الأجيال الصاعدة. فهي مستقبل الوطن، ويجب أن تتعلم أن لبنان، ثم لبنان، ثم لبنان، أولًا وقبل كل شيء.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.