كانت "إدّا" ابنة "بِنيتو موسوليني"، وراء وصول زوجها "غالياتسو تشانو" إلى وزارة الخارجية الإيطالية. لكن المفارقة أن الأب الديكتاتور لم يختره لأنه صهره؛ إذ إنه كان "يعارض" فكرة العلاقات العائلية مرارًا، رغم تعلقه بابنته التي أنجبها من علاقة غير شرعية. هذا ليس تفصيلًا، لأن العلاقة بالكنيسة وبالعائلة اليوم، ليست تفصيلًا في مفاضلة الإيطاليين -والأوروبيين عمومًا- بين ما يسمى باليمين واليسار. في النهاية، عيّن موسوليني صهره في منصبه، لأنه آمن بأنه الشخص المؤهل لهدف محدد، وهو إقامة أفضل العلاقات المناسبة مع الألمان.
في سنة ١٩٤٤، عندما صار موسوليني "دوتشِه" (أي القائد) تابعًا بشكل ذيلي للنازيين، أعدم صهره، لأنه بدأ يتكلم عن فض الحلف مع النازيين. المفارقة أن غالياتسو تشانو تحدر من عائلة أرستقراطية، على عكس ابنة موسوليني، مع أن الأخير صار زعيم إيطاليا الفاشية، إلا أنه وبعد انتهاء كل شيء، عاد في التاريخ إلى جذوره الحقيقية، في حين حافظ صهره على تلك الجملة التي لا تعني شيئًا اليوم: "تحدر من جذور أرستقراطية". هذه الاستعارة، ليست محاولة لإقامة مقارنة دقيقة بين إدّا تشانو و"جورجا مِلوني". فالأولى، في النهاية، ابنة موسوليني؛ والثانية صارت فجأة أقوى امرأة في إيطاليا. إنها مجرد مصادفة، أن تكون امرأتان في الواجهة، عند الحديث في الفاشية، وهي النظام الذي يقدم تصورًا مروّعًا عن المرأة.
إلى ذلك، الفارق ليس صغيرًا بين الامرأتين. وهو كذلك بين "يمينية" مِلوني، و"يمينية" إدّا تشانو، أو "يمينية" موسوليني نفسه. فاليمين في تلك الأيام ليس كما هو في أيامنا، واليسار كذلك. ولا يمكن تفسير الإصرار على المصطلحَين، إلا بعجز العالم عن اختراع بديل عنهما. لاحقًا وبعد سقوط الفاشية، أُعجبت إدّا تشانو برجل شيوعي. وهذه مجرد مصادفة. لكن والدها نفسه كان ينظر إليه دائمًا بوصفه رجلًا اشتراكيًّا. بدأ حياته في اليسار، وكان موقفه متسقًا مع موقف اليسار العالمي في البداية؛ إذ رفض اقتتال العمال في الحرب لمصلحة البورجوازيات القومية. قد يبدو كل هذا عصيًّا على التصديق اليوم، من قِبل يساريِّي اليوم الذين تهيمن على معظمهم نزعة ليبرالية، خاصة بعد ابتذال مصطلح "فاشية" واستسهال استخدامه، أكثر مما كان سلوكه الأيديولوجي مبتذلًا في الأساس.
إنْ راجعنا تلك الأيام، فإن موسوليني كان يحلم بالثورة، ويرفض النضال داخل النظام قبل أن يصير قوميًّا وفاشيًّا، بحسب ما عرفه العالم لاحقًا وعرف فظاعات الفاشية. ولا يكفي هذا العرض السريع لمعرفة العلاقة بين مِلوني والفاشية، بل يجب فهم فاشية موسوليني نفسه قبل الحديث في "إخوة إيطاليا". فبمعزل عن أدوات تثبيت نظامه، صار الــ"دوتشِه" خلال حكمه حارسًا لمصالح الطبقة الوسطى، وأعاد تنظيم دولة ليبرالية تناسب البورجوازية، وعرف مقاومة كبيرة من الفاشيين الأوائل. بمعنًى ما، كان موسوليني وفاشيته اللاحقة -وهي تختلف عن فاشية المنظرين الإيطاليين الأساسيين أحيانًا بدرجة واضحة- جزءًا من مجتمع حقبته. وكانت فاشيته المنبثقة في الأصل من طموحات ثورية يسارية، نتيجة من نتائج الحرب القومية، الناتجة بدورها من تصدع الإمبراطوريات.
السؤال الوحيد الذي يمكننا أن نسأله، عندما نتحدث بمقارنة بين الفاشستية في زمانها والنزعات اليمينية التي تبدو مفرطة في عدائيتها اليوم، هو عن علاقة "إخوة إيطاليا" بزمنين: الأول منهما هو زمن الفاشية نفسه، والثاني هو الزمن الحاضر. بالنسبة إلى الزمن الأول، تبدو فيه إيطاليا كلها -وليس فقط حزب "الرابطة" الذي يقوده ماتيو سالفيني، أو حزب "إخوة إيطاليا" الذي تقوده مِلوني-، منقطعة تمامًا عن زمن الفاشية. فالعالم ليس على عتبة الدولة القومية، ولا يمكن اعتبار تفكك الاتحاد الأوروبي عودة إلى الدولة القومية؛ ذلك أن الدولة القومية موجودة اليوم. وهذا مدخل أساسي -ربما- إلى الحديث في أوجُه "يمينية" مِلوني، وفي تبخُّر اليسار.
يعتقد مفكرون إيطاليون كثيرون، أن اليسار موجود (لكن لا يعرفون أين). يقول "لوكا سوفري" مثلًا: إن الأشخاص الذين يحملون أفكارًا "ديمقراطية وغير عنصرية وتقدمية هم يساريون". ولكن هل يكفي هذا؟ يبدو واضحًا أنه من دون البناء الأيديولوجي، فإنه حتى الآخرون الذين تستهدفهم مِلوني بقضايا عصرنا (أي المهاجرين والمسلمين والعمال)، يصوّتون لليمين. أول نائب إيطالي من أصول إفريقية كان في حزب "الرابطة"، الذي يدعو إلى الانفصال حتى عن الإيطاليين في الجنوب، كذلك ترشحت سعاد سباعي، صاحبة الأصول العربية، في ضمن لوائح حزبه.
أكثر من ذلك، إنْ سألت مسلمين مهاجرين في إيطاليا من خارج النخب التقليدية، فسيتبين أن غالبية هؤلاء قرروا انتخاب مِلوني أو اليمين، وهم -بحسب أرقام مركز الأبحاث الإيطالي المستقل (CESNUR) لعام 2020- يشكلون ٤٪ فقط من سكان إيطاليا، أي أنهم لا يؤثرون عمليًّا في النتائج. وقد يعلل جزء منهم ذلك، بأن الأفكار اليسارية اليوم هي أفكار لا تخاطبهم. وعلى العكس من ذلك، فإنهم يجدون الحديث في "العائلة" مثلًا، أكثر إقناعًا. وليس هذا تبريرًا ولا تصنيفًا، لكن اليسار في إيطاليا -كما في لبنان وفي دول عربية كثيرة- على الأرجح صار نخبويًّا أكثر مما يعتقد بكثير. وأحد تبريراته الكثيرة -في إيطاليا تحديدًا- هو أن مِلوني تمثل "عودة الفاشية". بيْدَ أن هذا التحذير لم يعد كافيًا، على الأقل للعاديين!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.