بينما كنت أتجول في شوارع مدينة بوتسدام الألمانية، لفت انتباهي نصب تذكاري يقع بالقرب من سوق المدينة القديم. بخلاف التماثيل الرمزية التي ألِفْناها، تبدو طريقة نحت هذا التمثال مختلفة. فهو فراغ على هيئة إنسان في وسط منحوتة حجرية. بجوار التمثال وُضعت لوحة تعريفية: “نصب الجندي الهارب المجهول”.
كانت هذه الكلمات غريبة، فنحن معتادون رؤية النُّصب التذكارية للجنود المجهولين الذين شاركوا في الحروب، ولم يتسنَّ لنا معرفة أسمائهم. لكن هذا الرمز التذكاري يسلط الضوء على جنود آخرين، كانوا في الصفوف الأمامية في معارك الحرب العالمية الثانية، قرروا في لحظة ما التخلي عن السلاح والمغادرة. فقُتل منهم حوالي 23 ألف جندي بسبب رفض المواجهة. اليوم توجد هذه النصب في العديد من المدن الألمانية، معظمها يحمل عبارة الروائي الألماني الشهير كورت توخولسكي: “هذا من أجل إنسان رفض قتل أخيه”.
أخذتني العبارة الاخيرة إلى موقف الجندي، الذي فضل اختيار تلقِّي الموت من الخلف، على أن يقذفه في صدور من يواجههم. هل كان ذلك جبنًا منه؟ لا يمكن الحصول على إجابة دقيقة، لاختلاف دوافع كل جندي في تلك المعارك، حيث لكل واحد مبرراته الخاصة. بَيْد أن وقائع تلك المواجهات، تخبرنا أن مقاصل الإعدام كانت منصوبة لمن يقرر التراجع عن القتال، أي أن من ينسحب من المواجهة يواجه موتًا محقَّقًا من قادة معسكره. هذا السلوك لا يتطابق مع صفة الجبن، التي تَبرز حين يكون خيار النجاة متاحًا. لكن الانسحاب من المعركة أيضًا، لا يتَّسق مع مفهوم الشجاعة التقليدي الذي نحمله، والذي يعني الإقدام وعدم التراجع. باعتقادي، أن هذا السلوك يجسد فكرة شجاعة اللاعنف، أي التمتع بطاقة الشجاعة الكاملة مع تغيير اتجاهها.
الأدبيات العسكرية في معظم الدول، لا تمجد هذه الصورة، بل تدرجها في صنف الخيانة الجسيمة. فالانضباط والجندية وطاعة الأوامر، جميعها قواعد لا تُمسُّ في العرف العسكري. لكن الجزء الغائب في هذه القواعد، هو وجود أساس أخلاقي ومنطقي لفكرة الحرب، مثل: أن تكون الحرب دفاعية للضرورة القصوى، مع الالتزام الكامل بقوانين الحرب. وحين يغيب هذا الأساس، تغيب معه مسوِّغات الحرب، أي حين يصبح القتل لذات القتل، والعبث سيد الموقف؛ تصبح القاعدة الملزمة للجميع هي إيقاف ماكينة العنف، كل بحسب قدرته. لأن استمرار الحرب يصبح عدميًّا، بلا نتيجة.
تزداد كارثية الحرب حين تتحول إلى ثقافة أو طريقة تعامُل أو أسلوب حياة، أي انحرافها من المؤقت إلى الدائم. فالحرب -وإن كانت من أجل قضية عادلة- هي في جوهرها فعل مميت، يجب تحاشي الوقوع فيه. هذا الأمر دفع بعض المجتمعات، إلى التنبه لتأثير تغلغل ثقافة الحرب في المجتمع. ينقل “فرويد” عن بعض باحثي الأنثروبولوجيا، الذين عملوا على دراسة سلوك بعض القبائل الأفريقية، ما يشير إلى هذا التنبه. ففي مجتمعات بعينها، عندما يعود الرجال من الحرب “منتصرين”، بعد أن قتلوا أعداءهم ذودًا عن القبيلة أو العشيرة، لم يكن يُعاد دمجُهم فورًا في الجماعة، بل كانوا يقيمون عدة أيام في كوخ خارج المجموعة صائمين. وهكذا، بدلًا من أن تحتفل القبيلة بطقوس النصر، كانت تحتفي بشعائر الحِداد، كانوا يعلنون الحِداد على الذين قتلوهم بأيديهم.
أعادني هذا الحديث إلى العام 2017، في إحدى المدن اليمنية، حين أوقفت سيارة تاكسي لقضاء بعض المشاوير. جلست إلى جوار السائق، فوجدت على يساره عكازًا ودعامة بلاستيكية. بدأنا الحديث، وأنا مسكون بفضول معرفة تجربته وتعامله مع إعاقة رجله. جرني الحديث إلى سؤاله كيف حصلت الإعاقة. قال لي بعد أن اطمئن في الحديث: قبل أشهُر التحقت بجبهة القتال، كنت واقعًا حينها تحت تأثير الخطب الحماسية، وتمجيدات الإعلام، وأغاني الحرب التي تتدفق من كل أزقة المدينة. حين هجمنا على إحدى المناطق، كنت في الخطوط الأمامية، ليس لي همٌّ سوى قتل كل من يعترض طريقنا. في إحدى لحظات المعركة، صحوت فجأة. فكرت في زوجتي التي ودعتني باكية، فلم يكن مرَّ على زواجنا سوى 8 أشهر. وفكرت أيضًا في أهالي من يقفون على الجبهة المقابلة. خنقتني هذه الصحوة المتأخرة. فقررت الانسحاب. ولكون التراجع ضريبته القتل، فقد قمت بإطلاق رصاصة على رجلي. ليجري سحبي إلى الخلف ضمن الجرحى. ألقيت بعدها سلاحي، وعُدت إلى بيتي مُعافًى برِجل جريحة. انتهى الحديث.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.