يحكي الخبرُ الآتي من كندا قبل أشهر، عن اعتذار البابا فرنسيس عن سوء تعامل الكنيسة مع الشعوب الأصلية هناك بقوله: إنه "يشعر بالعار"، طالبًا الصفح عن "الخطأ الكارثي" الذي ارتكبته المدارس الداخلية التي أدارتها الكنيسة، بحق أطفال وأفراد من هذه الشعوب.
أتى الاعتذار على خلفية التقارير المتواترة، عن الدور الكارثي الذي لعبته الكنيسة من خلال المدارس الداخلية، بدءًا من سبعينيات القرن التاسع عشر حتى إغلاق آخر مدرسة من هذا النوع سنة 1996. جرى خلال هذه السنوات انتزاع 150 ألف طفل من عائلاتهم وإلحاقهم بهذه المدارس، حيث تعرض الكثيرون منهم لسوء المعاملة، وللإصابة بالمرض، وسوء التغذية، والبرد الشديد، والعنف، والتحرش الجنسي. ويُعتَقد أن أكثر من 3000 تلميذ قد لقوا حتفهم مِن جرَّاء هذه المعاملة، وقد وصفت لجنة الحقيقة والمصالحة المعنية بهذه القضية المدارسَ الكاثوليكية الداخلية، بأنها ركن أساسي في الإبادة الجماعية الثقافية ضد الشعوب الأصلية.
في الأصل، تكمن جذور هذه الممارسات بحق الشعوب الأصلية، في نظرة كنسية مركزية سادت خلال حقبة اكتشاف "العالم الجديد"، مُفادها أن الشعوب الأصلية هي شعوب متوحشة "كافرة"، من الواجب العمل على تحضيرها وإدخالها في المسيحية. وفي سبيل ذلك، ارتُكب كمٌّ هائل من الانتهاكات باسم الإيمان والخير، بحق هذه الشعوب وثقافتها. هذه النظرة الكنسية إلى الشعوب الأصلية ترتكز في العمق على عدم الاعتراف بالكرامة الإنسانية لأفراد هذه الشعوب، وعلى الشعور بتفوق الأوروبي المسيحي الأبيض عليها، وعلى الحاجة إلى "ترويض" هذه الشعوب و"الارتقاء" بها.
لو تَحقَّق حينذاك الاعتراف بكرامة أفراد الشعوب الأصلية الإنسانية، لكان انقضَّ الأساس الذي بنيت عليه الاضطهادات بحقهم، ولمَا كان هناك من "خطأ كارثي"، أو من حاجة إلى الاعتذار الذي أتى متأخرًا كثيرًا، أو مِن فعل معنوي محدود على ارتكاب مادي موصوف، لا يمكن حتى في الوقت الحاضر حصر كامل تفاصيله وتأثيراته السلبية.
الاعتذار -مع كونه فعلًا لطيفًا وضروريًا- قد يكون ذا أثر عكسي، إنْ هو انفصل عن مراجعة جدية للماضي، أيْ مراجعة مؤسساتية تقوم بها الكنيسة، لا البابا بوصفه فردًا، ولو كان رأس هذه الكنيسة. وأيضًا يكون للاعتذار ردٌّ عكسي إن لم يترافق مع محاسبة لأي مسؤولين لا يزالون على قيد الحياة، ومع تعويض عادل معنوي مادي للضحايا وعائلاتهم وشعوبهم. لقد قال ممثلو الشعوب الأصلية: إنهم يريدون أكثر من اعتذار، أيْ تعويضًا مناسبًا، وإعادة اللَّقَى الأثرية التي نقلت إلى الفاتيكان، ودعم تقديم أحد المشتبه فيهم بالاعتداءات إلى العدالة، إضافة إلى فتح أرشيف هذه المدارس وسجلاتها، وأيضًا نبذ المراسيم البابوية الغابرة التي شرعت السياسات الاستعمارية في القارة الأميركية، وأباحت انتهاك شعوبها الأصلية.
من جهة أخرى وفي السياق نفسه، لكن في بلداننا العربية، جرى في الأوساط المسيحية إما تجاهل الخبر الحدث، أو تسخيره لتطوير شعور مضمر بالتفوق. فتناقلت وسائل الإعلام الكنسية، ومنها تلك التي تنشط باللغة العربية في الشرق الأوسط، خبر خطوة البابا الذي زار السكان الأصليين في كندا، واعتذر إليهم في ثلاث مناسبات مختلفة. وأيضًا احتفت بالحدث الدال -بحسب تلك الوسائل- على التواضع وحسن النية، والرغبة في طي صفحة الماضي وتجاوُزه عبْر الاعتراف بالأخطاء الجسيمة المرتكبة والاعتذار عنها.
التهليل المسيحي المحلي في بلادنا لهذا الاعتذار، يأتي ليطرح مفارقتين جديرتين بالتوقف عندهما:
المفارقة الأولى، أن التهليل في حد ذاته للحدث والاحتفاء به يشكل دليلًا على استثنائيته، بمعنى أنه غير متوقع؛ إذ إن واقع الحال المعتاد هو التجاوز عن ممارسات مماثلة، والسعي إلى التكتم عليها، بدل مواجهتها والتعامل الصحيح معها كما يجب. فالحدث مناسبة للشعور بالخجل والندم، والرغبة في إصلاح الخطأ والتعويض عنه، لا للاحتفال والتهليل.
أما المفارقة الثانية التي لا تنفصل عن الأولى، فهي الاحتفال باعتذار البابا في كندا، والاستمرار في الوقت عينه في تغطية رجال دين متهمين بالتحرش في الأوساط الكنسية المحلية، أو الاكتفاء بمحاسبتهم محاسبة طفيفة، تذرُّ الرماد في العيون ولا تعطي الضحايا حقوقهم.
أيضًا عندما أعلن القرار الاستثنائي الصادر أخيرًا عن الفاتيكان، نزْع الصفة الكهنوتية من كاهنَين لبنانيين -أحدهما ذائع الشهرة-، بسبب إدانتهما بتهم الاغتصاب والتحرش بحق أطفال؛ علت أصوات مسيحية محلية من إكليروس وعلمانيين، استمرت في الدفاع عن الكاهنَين المدانين، مطالِبة بتجاوز الأمر، ومذكِّرة بالخدمات الجليلة التي قدمها هذا الكاهن أو ذاك للكنيسة عبر سنوات خدمته الطويلة.
إن كان من مؤامرة ضد الكنيسة على ما يقول بعضهم، فالحل هو في مواجهة المتحرشين والمُنتَهِكين، ومحاسبتهم ورفع أي غطاء كنسي عنهم، بدل تركهم خاصرة رخوة يستعملها المتآمرون المفترضون لطعن الكنيسة.
خطوة اعتذار البابا ضرورية ومرحب بها، ولكنها ناقصة، وتكتمل بمراجعة الماضي على نحو مؤسساتي، وبتعويض الضحايا ومحاسبة المتورطين دون أي إبطاء، وتفعيل آليات شفافة وسريعة للتحقيق والمحاسبة في أي انتهاكات جديدة. أما في شرقنا المُنْهك، فالاحتفال باعتذار البابا إلى الشعوب الأصلية على بعد ألوف الكيلومترات، والاستمرار في تغطية المتورطين على بعد بضعة كيلومترات أو تجميل صورتهم والتغاضي عنهم، تصرُّفان لا يستويان، وتلازُمهما يدل على أزمة عميقة تطول الممارسة الكنسية ببعديها: السلطة الروحية والمؤمنين. والأهم، دلالتهما على العقلية التي تقف خلف هذه الممارسات.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.