ما يتعرض له المجتمع الفلسطيني منذ ما يزيد على سبعة عقود من جرَّاء السياسات الإسرائيلية، وما يتعرض له المجتمع العراقي منذ ثلاثة عقود من جراء السياسات الأميركية، ينبغي أن يحفزا النخب الأكاديمية على تقديم قراءة جديدة للتاريخ المعاصر في الشرق الأوسط، تضع مثل هذه الجرائم ضمن التاريخ العالمي للإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
في هذا السياق، سبق أن حلل العديد من الأكاديميين الفلسطينيين تدمير المجتمع الفلسطيني منذ عام 1948، على نحو يُظهر التهجير والتدمير باعتبارهما تطهيرًا عِرقيًّا، وإن لم يستخدما المصطلح نفسه. مثال ذلك: "نور مصالحة" في كتابه: "طرد الفلسطينيين" الذي نُشر في ثمانينيات القرن الماضي، وأيضًا كتابات زميله الفلسطيني "وليد الخالدي"، وآخرين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة. علمًا أن مصطلح التطهير العرقي Ethnic Cleansing قد ظهر أثناء النزاع في البلقان (البوسنة والهرسك سنة 1995، وكوسوفو 1999).
إن الأعمال الأكاديمية التي أثارت ضجة واسعة، وأدانت سياسات إسرائيل -حتى من داخل إسرائيل نفسها-، كانت أكثر وقعًا، وبالتحديد كتابات تيار المؤرخين الجدد، حيث شكَّل نشر كتاب المؤرخ الإسرائيلي "بيني موريس": "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين" الصادر عام 1988، أول بَلْوَرة للمصطلح وللتيار، اللَّذَين أعادَا قراءة التاريخ. بعدها، أخذ التيار يتوسع مع إضافة أسماء جديدة فيه، مثل: إيلان بابيه، وشلومو ساند، وتوم سيفغ، وأفي شلايم، وآخرين.
تَحدَّت هذه الكتابات الجريئة النسخة الرسمية للتاريخ الإسرائيلي من داخل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، لا سيما دور إسرائيل في التطهير العرقي (أي تهجير الفلسطينيين)، والتي عادة ما تستقر في التاريخ الرسمي لحرب 1948 بوصفها هجرة طوعية. فمثلًا: أثبت "بيني موريس" في كتابه "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، زيف الادعاء الإسرائيلي بأنَّ مغادرة الفلسطينيين لأرضهم كانت طوعًا، وأن الصورة التي رسمها الإسرائيليون لأنفسهم، بأنهم يخوضون حربًا أخلاقية ضد عالم عربي بدائي، غير مطابقة للواقع. أما المؤرخ الإسرائيلي "بابيه"، فيحلل أسباب تدمير المجتمع الفلسطيني، مُطْلِقًا على النكبة تسمية "التطهير العرقي"، ورافضًا استخدام مصطلح النكبة، لأنه -برأيه- تعبير مُخاتل يحيل إلى كارثة، ولا يشير إلى من ارتكبها.
اِستمر التطهير بوسائل أخرى، مثل "قانون أملاك الغائبين"، الذي نص على الاستيلاء على جميع الأراضي والممتلكات التي خلفها اللاجئون، وعلى سيطرة إسرائيل على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، من خلال نظام احتلال يَحرم الفلسطينيين معظمَ حقوقهم الفردية والجماعية.
كتابات المؤرخين الجدد، والنقاش داخل إسرائيل، لم يهدم جدار الإنكار الإسرائيلي الرسمي للنكبة، أي إنكار التطهير العرقي في فلسطين وما تبعه من نتائج كان من أبرزها نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. إنَّ إنكار وقوع النكبة لا يختلف عن إنكار تركيا لإبادة الأرمن، أو إنكار إبادة الشعوب الأصلية من قِبل المستوطنين الأوروبيين للعالم الجديد، أي إنكار المسؤولية عن التطهير العرقي. ومِثل هذا المعتقد يطابق الموقف الرسمي الإسرائيلي، الذي يتهرب من التوصل إلى أيِّ تسوية أو حل دائم لمشكلة الفلسطينيين.
فمن الناحية الإستراتيجية، فإن الاعتراف بالنكبة يعني تحميل إسرائيل المسؤولية عن كل ما يتعلق بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وتحويلَهم إلى مقوِّم أساس في حل المشكلة الفلسطينية، فضلًا عن المسؤولية القانونية والقضائية لعدد من قادة إسرائيل التاريخيين عن الفظائع، وتقديمهم للمحاكمة. من جهة ثانية، تبذل إسرائيل جهدها لإلقاء اللوم على ضحايا النكبة، وتتجاهلها رسميًّا، وتحاول السيطرة على ذكراها من خلال اتباع إستراتيجيات عديدة، منها إصدار "قانون النكبة 2011" الذي يفرض عقوبات مالية على المؤسسات التي تقوم بإحياء ذكرى النكبة.
الموقف الأخلاقي والأكاديمي، يستدعي ملاحظة أن الإبادة الجماعية مستمرة في السياسات الإسرائيلية المعاصرة، والتي تشمل بناء المستوطنات وعمليات القتل الجماعي، التي لا يتردد بعض المؤلفين في وصفها بالإبادة الجماعية، على غِرار ما حدث عند إخلاء سبع عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح، في الجانب الشرقي من البلدة القديمة في القدس، لإسكان مستوطنين إسرائيليين؛ ما أدى إلى إشعال مواجهات إسرائيلية فلسطينية عنيفة في شهر أيار/مايو 2021. هذا النمط من الإبادة الذي يمكن وصفه بالإبادة الجماعية عن طريق الاستنزاف Genocide by Attrition، ينطبق على كلٍّ مِن وضْع فلسطين خلال أكثر من سبعة عقود، ووضْع العراق خلال أكثر من ثلاثة عقود.
ختامًا، ينبغي وضع التطهير العرقي في فلسطين، في سياق التاريخ العالمي للتطهير العرقي والإبادة الجماعية. في هذا السياق يؤكد بابيه قائلًا: "حتى لو لم نسمع بما جرى في البلقان، وتَعرَّفنا على ما يحدث في فلسطين فحسب، لكان لنا أن نعترف بأن مفهوم التطهير العرقي مستوحًى من النكبة".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.