الإنسان العربي العاري من الأمان
في حادثة غريبة في تفاصيلها، تُوفيت عاملة خياطة أردنية بعد أن انهال عليها المسؤولون عنها بالتوبيخ. المرأة لم تتحمل الظلم والقهر، وسقطت على الأرض بلا حراك. الوفاة قهرًا ليست بالأمر الجديد في عالمنا العربي، بل ربما تكون من المسببات الرئيسية للأمراض والأزمات الصحية التي تُفضي إلى الموت دون أن تشملها الإحصاءات، التي غالبًا لا تأخذ العواملَ النفسية بعين الاعتبار، عند جرد طرق الموت المتعددة.
فتَحت هذه الحادثة باب التفكير في المنظومة الكاملة، التي تُسيّر حياة الفرد العربي. وهي منظومة يعيش فيها الفرد فاقدًا تمامًا للأمان، مهدَّدًا بالشارع في أي لحظة، لا قوانين تحميه من تجبُّر أرباب العمل، ولا يرحمه أحد إن أخطأ أو زل أو تعب أو مرض. باختصار، الفرد العربي يأتي إلى الدنيا محمَّلًا بالأعباء، ويغادرها مقهورًا بعد أن يستسلم جسده من الإنهاك.
لا شك في أن الرجل والمرأة يعانيان في هذه المجتمعات، إلا أن التمييز ضد المرأة في القوانين يجعلها أكثر هشاشة، وأكثر عرضة لغدر الزمن، وأقل تسلُّحًا لمواجهته. المرأة العربية تفتقر إلى الأمان في الزواج والعمل على حد سواء. بيتها مبني على قواعد متأرجحة، هزة صغيرة قد تطيحه أرضًا، وعندها قد تجد نفسها في الشارع. وإن خرجت للعمل، فالتمييز في الأجور لها بالمرصاد. ثم إنها تعمل في البيت وخارجه، وإنْ أرادت أن تحصل على الأمان، فهذا يجعلها منهكة ويعرِّضها للأمراض العضوية والنفسية، إضافة إلى أنها ضعيفة بالقوانين التي تَحرم أولادها الجنسية، وبالميراث الذي يعطيها نصف ما يأخذ الرجل، هذا إنْ لم يُجْبرها ذكور العائلة على التنازل مقابل الفتات. هي ضعيفة بالتربية، التي تُضْعفها منذ قدومها إلى الدنيا. تلك التربية تستثنيها من التجارب التي تصقل شخصيتها، وتساعدها على الصمود في هذه الحياة القاسية. وهي ضعيفة باستثنائها أحيانًا من التعليم الجيد، ومِن اكتساب المهارات التي تغنيها عن السؤال عند الحاجة.
إلَّا أنها تتشارك مع الرجل العربي في القهر، وإن كانت أكثر من يتعرض له في المجتمعات الأبوية، التي تعتمد على قهر القوي للضعيف. فكلاهما مُنهَك ومقهور، كلاهما أعزَلُ بدون منظومة حماية من غدر الزمن أو الصحة أو العمر، كلاهما يشعر بالخوف والرعب من تقلب الزمن والخوف، لو تعلمون أساس البلاء.
الإنسان الخائف دائم القلق. هو إنسان مضطرب، يدفعه الخوف إلى أن يُخرج أسوأ ما فيه. الخوف من فقدان الأمان يدفع المرء إلى الكذب والنفاق، للحفاظ على موقعه والتمسك به. لا أحد يستطيع أن يحيا حياة كاملة، وهو خائف مرعوب من وقوع سقف حياته على رأسه في لحظة. وقد تنبهت مجتمعات أخرى لهذا الضرر الكبير، فتجنبته عن طريق القوانين العادلة والنقابات العمالية وقوانين حماية الأسرة. فإن تعرضت المرأة للعنف، تكفلت الحكومة بإيوائها وأطفالها، وأعادت لها حقوقها باعتبارها شريكة في مؤسسة الزواج، وإنْ أنجبت أمَّنَت لطفلها أساسيات المعيشة من حليب أطفال وحفاظات. أما العامل، فإنْ تَعرَّض لظلم رئيسه وقفت في وجه الأخير النقابات العمالية والقوانين الحامية، وإنْ مرض تكفلت الدولة بعلاجه، وإذا كبر في السن فتَقاعُده يغنيه ويكفيه لحياة كريمة.
ينام الفرد العربي خائفًا من أن يفقد وظيفته. فأقساط التعليم الجيد والتطبيب لا يقوى على تحمُّلها الكثير في هذ الزمن، في حين يجب أن يكون التعليم والصحة مُتاحَين للجميع بدون استثناءات. فالتعليم الحكومي الجيد يُخرج أجيالًا واعية مستعدة لسوق العمل، والتأمين الصحي الحكومي يقدم كل ما يستطيع لعلاج المواطن(ة) الغني والفقير معًا.
عندما يضع الوزراء أبناءهم في المدارس الحكومية، ويتطببون في مستشفيات الصحة، تكون المنظومة نجحت في توفير حياة آدمية لمواطنيها. وعندما نُنهي كل أشكال التمييز بين الرجل والمرأة، نكون في الطريق الصحيح لبناء وطن. وعندما تَضمن القوانينُ العدالةَ للموظفين والعمال، وتحميهم من الفصل التعسفي، وتعطيهم حقوقهم كاملة، نكون قد أنشأنا اقتصادًا قويًّا قائمًا على العدالة. عندما نُقرُّ حقوق الأطفال، ونحميهم من العنف، ونؤمِّن لهم الغذاء المتوازن والتعليم الجيد، نضع أول لُبْنة لبناء مجتمع سليم. وعندما نطلب العدالة لغيرنا حتى ولو على حساب امتيازات أخذناها دون وجه حق، وأيضًا عندما نضع الإنسان وحقوقه في أولوياتنا؛ آنذاك لن يموت المُواطن أو المواطِنة من القهر.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.