قبل دقائق قليلة من الانفجار الدموي في مرفأ بيروت، أُرسلَت مجموعة من عناصر الدفاع المدني اللبناني لإخماد الحريق. فأسرع 10 عناصر لتأدية الواجب، حيث لقوا مصيرهم، وكانوا من أوائل ضحايا الانفجار. لم يحذرهم المسؤولون عن المرفأ من وجود 2750 طنًّا من نترات الأمونيوم، التي قد تنفجر في أي لحظة. كانوا أول من تعرض للخيانة بسبب إهمال المنظومة المجرمة، وكانوا من أوائل الضحايا الذين بكيناهم.
كانت ليلة طويلة، وبيروت مظلمة تمامًا. فِرَق الإنقاذ المحلية تحاول العثور على ناجين/ات تحت أنقاض الأحياء المتضررة، أو تحت أنقاض ما تبقَّى من مدينتنا. نحن الذين نجَونا، كنا نشاهد وننتظر، نقلِّب صفحات التواصل الاجتماعي، نستمع إلى صرخات من فَقدوا أعزَّاءهم، ننظر في صور المفقودين/ات والضحايا، ونحاول التعرف إلى المباني المدمرة وشوارع المدينة التي فقدت ملامحها. في اليوم التالي بعد الانفجار، كان سكان المدينة المنكوبة والأهالي ينتظرون أخبارًا عمَّن فقدوهم. فاستيقظنا على ارتفاع عدد الضحايا إلى أكثر من 100 شهيد و2000 جريح. ونحن الذين نجونا كنا نتساءل: “هل بقي أحياء على أرض بيروت؟”.
بعد 17 ساعة من الانفجار، كان “عصام شمص” لا يزال حيًّا تحت الأنقاض. “عصام” المتطوع في الدفاع المدني اللبناني، يُعَدُّ من أوائل الناجين من الانفجار. فلم يكن ضمْن المجموعة التي أُرسلَت غدرًا لإخماد الحريق، لكنه وُجد حيًّا تحت أنقاض منزله في منطقة مستشفى الروم. كان عصام أول من ابتسم بعد تلك الليلة، ابتسامةً أنقذها أبطال الدفاع المدني الفلسطيني في لبنان (فَوْج مخيَّم برج البراجنة)؛ إذ تمكَّنوا بمعدات متواضعة وقدرات محدودة، وبعد عمل استمر مدة 11 ساعة، من انتشال عصام من تحت أنقاض مبنى مكوَّن من ثلاثة طوابق.
عادة ما يقوم الدفاع المدني الفلسطيني بمهام إغاثة، ومكافحة حرائق، وتوفير مأوى، وبحث وإنقاذ في مناطق المخيمات. لكنهم لم يترددوا يومًا في تقديم يد العون، لمساعدة مراكز الدفاع المدني اللبناني عند الحاجة. هؤلاء الشباب الفلسطينيون الذين يواجهون أسوأ أشكال العنصرية الممنهجة من مؤسسات الدولة، لم يتخلوا عن إنسانيتهم، ولم يتوقفوا عن اعتبار لبنان وطنهم، وبيروت مدينتهم، ومُصابها مُصابهم. لم تكن عملية الإنقاذ سهلة. ثلاثة طوابق من الأنقاض، كانت متوازنة فوق جسد عصام المَحمِيّ بِلَوح من الخشب، حسب ما شرح محمد الهابط (قائد فوج برج البراجنة).
“أنا هَون، أنا هون. بدِّي أكسجين”. كان ذلك أول ما سمعه الشباب من عصام في تلك المنطقة، حسب ما أكده بلال أبو هاشم (مسؤول عمليات الفريق). بقي عصام حيًّا تحت الردم، حيًّا تحت أنقاض بيروت. في تلك اللحظة، كان الفريق شديد الحرص على إبقائه على قيد الحياة، وكان يمكن للأنقاض أن تسحق جسده بأي قرار متردد أو حركة متهورة. “كانت عملية صعبة كتير، بس نجحنا. عصام عايش!”، هكذا عبّر محمد.
انضم إلى الفريق أفواج أخرى من الدفاع المدني الفلسطيني، من مخيَّم عين الحلوة. فزوَّد الشبابُ عصامًا بالأكسجين، وتبادلوا معه الكثير من الأحاديث والروايات والمزاح، لتخفيف حدة التوتر والهول عنه، وتحفيزه على الصبر: “نحن هَون ومش رح نتركك”. وعصام بدوره كان صبورًا جدًّا، هادئًا وشجاعًا، ولم يُتوقَّع ذلك من شاب في عمره عاش تلك المأساة والمحنة الهائلة.
عندما نجح الفريق في إخراج عصام من تحت الردم، “ردِّتلْهُن الروح” -بحسب تعبير محمد وبلال-. كان مشهدًا يملؤه الفرح والأمل. عصام فوق الردم محمولًا على الأكتاف، يبتسم لمن حوله، ويعيد إحياء كل الحاضرين على الأرض وخلف الشاشات. وبين أصوات الصفير والهتافات سمعنا: “وحش يا عصام”. شاهدنا المشهد، نحن الذين نجَونا، رُدَّت إلينا الروح أيضًا مع ابتسامة عصام، وابتسمنا. عملية إنقاذ عصام -حسب ما قال بلال-، كانت الأمل الذي منحهم القوة والحافز على البحث عن المزيد من الناجين/ات، وعلى الإيمان بأن هناك المزيد من الأبطال الذين نجوا من المأساة. عصام الآن في أمان، لم يصدِّق أنه على قيد الحياة.
لا يزال الدفاع المدني الفلسطيني يعمل بجد حتى تاريخ كتابة هذه السطور، ويتعاون مع رجال الإنقاذ اللبنانيين والأجانب، للعثور على المزيد من الناجين/ات. وما زلنا -نحن الذين نجونا- ننتظر بلهفة، سماع دقات قلوب نابضة بالحياة تحت أنقاض بيروت.
نشر المقال في نسخته الأولى باللغة الإنكليزية على موقع The National هنا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.