ظلَّت تحولات الشرق الأوسط تحدِّيًا مستمرًّا في نظر البابوية. فهي مهْد أخوَّة الإيمان من أتباع الديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام). ومِن ثَمَّ، هي منطقة تحتل أهمية روحية ورمزية للكرسي الرسولي، مع أنَّ وزْنًا لا يستهان به من مسيحيِّيها هم خارج سلطة روما الروحية، وهم يشكلون مشهدًا مجزَّئًا للغاية، ومعرَّضًا للانقراض.
في حين تهيمن إسرائيل على الأرض المقدسة، وتجمعها علاقات نزاعية بمحيط إسلامي، يعيش معظم شعوبه في بلدان محكومة بأنظمة يهيمن عليها الإسلام على صعيد الدولة أو المجتمع -باستثناء لبنان-. ويُعَدُّ المسيحيون في معظم هذه البلدان أقلية غير فاعلة سياسيًّا في أغلب الحالات، وتتكون من العديد من الطوائف المسيحية أغلبها غير كاثوليكية أيضًا.
مع ذلك، فإنه إلى جانب الكاثوليك الذين يتبعون الطقوس اللاتينية والكنيسة المارونية في لبنان، هناك العديد من الكنائس في شراكة كاملة مع أُسقفِّ روما: كنيسة الروم الملكيِّين الكاثوليك (مقرها دمشق)، والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية (مقرها بغداد)، والكنيسة القبطية الكاثوليكية (مقرها القاهرة)، وكنيسة السريان الكاثوليك (مقرها دمشق)، والكنيسة الأرمنية الكاثوليكية (مقرها بيروت). أيضًا جزءٌ من هذا التنوع هو كنيستان هنديتان: كنيسة Syro Malabar الكاثوليكية (كنيسة مالابار السريان الكاثوليك)، والكنيسة الكاثوليكية Syro Malankara (كنيسة مالانكارا السريانية الكاثوليكية)، اللتان تتمتعان بعلاقات تاريخية وثيقة بالكنائس الشرقية في الشرق الأوسط، والتي يتألف وجودها الحالي في المنطقة من المهاجرين الهنود، الذين يشكلون جزءًا مهمًّا من القوى العاملة في شبه الجزيرة العربية.
وُجِد الحضور البابوي في سياساته اتجاه الشرق الأوسط، ضمْن صراع ما بعد نظام المِلل العثماني، وما بعد الاستعمار، في مواجهة القومية العلمانية، ثم الإسلام السياسي الذي بزغ نجمه مع الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩، ثم تَعزَّز مع احتلال العراق عام ٢٠٠٣، وتحولات الربيع العربي عام ٢٠١١. وقد سعت البابوية برأيي لطرح سيناريو ثالث يتجاوز خِيارَ القومية العلمانية بثوبها العروبي، وخيار الإسلام السياسي ذي الإيديولوجية الحصرية والمهيمِنة على المجال العام. أيضًا تسعى البابوية للتفاعل مع شرق أوسط ذي جذور إبراهيمية مشتركة، ضمْن مسعى رؤية ما بعد العلمانية، حيث ينفتح مجال جديد مُحايد ومشترَك لمواطنيها على اختلاف أديانهم.
في ظل القومية العلمانية، أعاد المسيحيون تعريف هويتهم بعيدًا عن المحدَّد الديني، واندمجوا في أنظمة بديلة لنظام الملل العثماني، حيث يمكن أن يظفروا بنوع من المساواة بوصفهم مواطنين أُسوةً بالمسلمين، وتصدَّروا المشهد أحيانًا، كما في مثال طارق عزيز نائب رئيس الجمهورية في عهد صدام حسين. لكن هذا المثال ظلَّ استثناءً، لا سيما وأن طارق عزيز كان بعثيًّا أكثر من كونه مسيحيًّا كلدانيًّا كاثوليكيًّا، وظلَّ في لهجته (التي يقلِّد فيها أهل تكريت)، كما في مصيره المأساوي في السجن، مخلصًا لنظام علماني أدار المجتمع العراقي بقوَّتَي الحديد والنار.
صاغت تبِعات هذه الخيارات، سياسة الكرسي الرسولي اتجاه الأنظمة العلمانية الأخرى. وفي مثال سوريا الأسد، ظلَّ الخوف من فوضى تعقُّب انهيار النظام الدكتاتوري، يأخذ عبرة من المثال العراقي، أو يتجنب السيناريو الأفظع لسيطرة تنظيم متطرف مثل الدولة الإسلامية، أو فوضى منفلتة تُشتِّت ما تبقَّى من مسيحيِّي المَشرق؛ أو كما في المثال الآخر في مصر، حيث كانت العودة إلى قواعد الحكم التقليدي العسكري أهون الشرور، في ضوء بديل إسلامي إخواني، لا يمكن للمسيحيين الأقباط التعايش معه بسهولة.
"ما بعد العلمانية" رؤية تُحاول خطَّ طريقٍ ثالث بين الإسلام السياسي والقومية العلمانية، وهي تؤكد بناء حيز محايد، يمكن فيه للمسيحيين والمسلمين العيش في ظل الأُخوَّة الإيمانية الإنسانية. لذا، يُفهَم توقيع وثيقة الأُخوَّة الإنسانية في "أبو ظبي" سنة 2019، في هذا السياق الساعي إلى جمع أخوة الإيمان، لا سيما وأن البابوية لن تنظر بارتياح إلى بديل علماني، يَدفع بالإيمان إلى الحيز الخاص. وتُعَدُّ زيارة البابا فرنسيس لآية الله السيستاني، خلال رحلته إلى العراق، مكمِّلة في هذا السياق لمسعى ثابت يدافع عن هذا المنظور المشترك لأخوة الإيمان، لا سيما وأن الزيارة الأخيرة لـ"بابا الشيعة" في النجف، حاضرة الشيعة وفاتيكانهم، تُمثل تصويتًا على التواصل الروحي البنَّاء مع ما يربو على ربع مليار شيعي في العالم الإسلامي. أيضًا تُمثِّل زيارةُ مرجعيَّته المعتدلة -كما محطات الرحلة البابوية في بغداد و"أُور" النبي إبراهيم في جنوب العراق وأربيل وسهل نينوى والموصل في شماله-، مثالًا على دعم تنوع يجب إنقاذه، في ضوء نموذج دولة مواطَنةٍ حاضنة للتنوع الثقافي.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.