من بعيد، بالنسبة إلينا، نحن الذين لا نعرف العيش في الماء، قد ترمز العوامة إلى القلق. سنخاف من النهر. وقد نسأل، من دون أن تكون لنا رغبة حقيقية في الاستماع إلى الأجوبة-: "كيف تكون الحياة في النهر؟".
لذلك، ربما عندما نشاهد تمسُّك "مدام إخلاص" بالعيش في عوامتها الجميلة القائمة على النيل، قد يَخطر لنا أنها تُبالغ. وإنْ تجولنا قليلًا عبْر الكاميرات داخل عوامتها، فلن نحتاج إلى الكثير لنكتشف أنها ليست منزلًا أقيمَ على عجل. فثمة حياة متأنية صُنعت هنا، ويحق لنا الاستنتاج أنها لا تدافع عن حق مادي فقط، في اضطرارها إلى العيش في المكان الوحيد الذي يمكنها العيش فيه، بل إنها تدافع أيضًا عن ذاكرتها، وعن علاقةٍ ما بدأت منذ يوم ولادتها في عوامة مشابهة، وامتدت إلى حافة التسعين. اليوم، حيث تقف بخوف لتُواجه الدولة من على شرفة عوامتها، يمكننا أن نتخيّلها واقفة هناك بقلق، لا لأنها ستغادر، بل لأنها ستترك ما عاشته فوق الهدير ثلاثين عامًا. أيضًا يمكننا أن نتخيّلها، وهي تنظر إلى النيل، وترى ما رآه الكاتب الروماني (إميل سيوران) مؤلف كتاب: "المياه كلها بلون الغرق".
في مصر يعيش مئات الآلاف خلف النهر، لكنّهم يحبّونه ويحبّهم. يعيشون تحت "خط الفقر". وعلى ما يبدو، قبِلنا جميعًا هذه التسمية، وبتنا نستعملها من دون اعتراض، كأننا نوافق على أن ثمة من هم "فوق"، وثمة من هم "تحت"، وأنه يجب علينا الموافقة على أن هذه هي حال العالم. ثمة خطٌّ ما يكون الناس فوقه أو تحته، ولا يمكنهم الالتقاء في مساحة واحدة مشتركة. ويبدو أنه يجب علينا الموافقة -لأننا ننتمي إلى هذا العالم- على أن هذه "مسألة طبيعية".
ما يميّز النيل، ليس أنه نهر وحسب، بل إنه مساحة مشتركة تلتقي فيها أبصار المصريين وأرواحهم. لا يوجد فوق النهر إلا السماء، ولا يوجد تحته إلا الذكريات. جيران النهر هم أصحابه، وهُم النهر في حد ذاته. وما يميّز "مدام إخلاص" هو أنها تعيش في النهر، أي أنها أقامت حياتها هناك، وكان يمشي النيل أمام عينيها، وعَرفَت دائمًا أنه سيعود. خلال هذه السنوات الطويلة، لم تطمع الماء بدخول عوامتها؛ اكتفت بالصداقة. ومثلها مثل جميع المصريين من مختلف الطبقات، عاشت من دون قلق، مع أن النهر تحتها، والريح فوقها دائمًا. تقول في المقابلة التي تعترض فيها على قرار طردها من منزلها، وطرد العوامة التي تقيم فيها عن مسقط رأسها: "إنهم يريدون أن ينشئوا مطاعم في مكان بيتها". اليوم، تدافع مدام إخلاص عن منزلها، وعن حقها في النظر إلى المدينة، وعن حق الإنسان في أن تكون له ذاكرة، وفي أن تكون لها مدينة أينما تشاء، فتكون السماء فوقها، والبيوت عامرة بأهلها حولها. في المقابل، تدافع الدولة عن نفسها بالقوانين التي تضعها بنفسها، في ظل غياب تام لأي عقد اجتماعي واضح بين الناس، وعدم فصل بين السُلطات، وفي ظل غياب تام لأي نقاش على حافة العقلانية.
يأتي النهر ويذهب، لكن الناس يذهبون فقط. عمر النهر دائمًا أكبر من أعمارهم. وليس في مصر فقط يعيش الناس على العوامات. هناك مدام إخلاص في لبنان وفي سوريا أيضًا، وفي بلاد كثيرة، حيث ينبت القلق في القلب، ويعشعش وينمو ثم يهدر كنهر في النهاية. في لبنان، ينتصب وسط المدينة فوق ركام ذاكرتها، وتعوم الذاكرة في شبر ماء، حيث كان الوسط يعيش على الأبيض المتوسط.
مِن بين ما يتحسر اللبنانيون عليه -وهو كثير اليوم في مِحنتهم القاسية-، هو اختفاء البحر. فمِثل عوامة مدام إخلاص في مصر، وفي وضع يكاد يكون أكثر قسوة طَبقيًّا، طُرِد الصيادون من دالية الروشة في بيروت. أقاموا القيامة يومها، وفَعل بعض الصحافيين ما يفعله بعضهم الآخر اليوم. تعاطفوا، تضامنوا، وذهبوا للجلوس مع الصيادين. لكن في النهاية، أزيلت تخشُّبيَّاتهم، وأزيلت ذاكرتهم وأيامهم، وسُلخوا بالقوة من البحر. استمر القطاع الخاص في نهش المدينة، واستمرت الجهة الراعية للقطاع العام في تحويل كل ما هو عام إلى خاص. كانت الدالية في بيروت، أحد آخر المعاقل الصامدة والصامتة أمام هجمات التعدي على الأملاك البحرية، والجملة المعروفة السائدة في لبنان: "لكن من دون أي أثر مادي". اتسع العمران، ليس بنيانًا وثقافة، إنما بصفته وحشًا. ربما كانت الدالية عوامة البيروتيين الأخيرة.
إن كان النهر خلاص المصريين، والبحر أمل اللبنانيين، فالسوريون لم يعودوا يملكون أرضًا يقيمون فيها منازل، يكون لها شرفات، يقفون فيها منتظرين ما نسميه "غدًا"، ويحاولون نسيان ما يمكننا الاتفاق عليه في أنه لم يصبح ماضيًا بعد. بالنسبة إلى السوريين، فإن العوامة لا تقوم على النهر، والبحر لا يضحك. منهم من يقيم في عوامة ذاكرته، فتسبح تحتها صور قلقة لبلاد خطرة، ويتمنون النزول منها يومًا، ليجدوا حياةً حقيقية، خالية من نهر دمائهم. يعيشون في قلق -كما تبدو لنا العوامات من بعيد-، ومثلهم أيضًا الفلسطينيون. وعليه، نحن جميعًا نعيش عائمين في شبر ماء، يتمسك كل منّا بخوفه، وتبدو البلاد كلها بلون الغرق.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.