الرجوع

التأويل المقاصدي: إشكاليات وأطر

الخميس

م ٢٠٢٢/٠٣/٢٤ |

هـ ١٤٤٣/٠٨/٢١

دخلَت الإنسانية عصرًا طرأت فيه تغيرات جذرية، وظهرت فيه مشكلات لم تكن موجودة من قبل؛ وهذا الأمر يقتضي تعاملًا وتفاعلًا إيجابيَّيْن معها، وأيضًا يقتضي مرونة في بعض الأحكام العملية للشريعة، لا سيما وأنها تهتم بالجانب الإيماني وبالجانب الحياتي للإنسان. وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: {لقد أَرْسلْنا رُسلَنا بالبيِّنات وأَنزَلْنا معهم الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ الناسُ بالقِسْط}. فالرسالات أُنزلت لإقامة نظام للبشر. 

لقد بات الحديث في تأويل الأحكام العملية وفق مقاصد الشريعة الإسلامية (أو ما يُعرف باسم "التأويل المقاصدي") أمرًا ضروريًّا؛ إذ أصبحت تلك المقاصد: "نبراسًا للمتفقهين في الدين، ومرجعًا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدُّل الأعصار، وتوسُّلًا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار" -بحسب ابن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"-. فهل يمكن أن يكون التأويل المقاصدي منهجًا مناسبًا لاستنباط الأحكام الشرعية في القضايا المعاصرة؟ وهل هو مطلق وبدون حدود أو شروط؟

التأويل المقاصدي يتألف من شقين: التأويل، ومقاصد الشريعة. أما التأويل في تعريف ابن رشد في كتابه "فصل المقال"، فهو:" إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يُخلَّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز". فالتأويل يكون بمعرفة الدلالات المجازية للألفاظ كما هو معروف في لغة العرب، وهو يعني في كتاب "كشاف اصطلاحات الفنون": التفسير. والتفسير يقتضي الفهم، والشرح، والتحليل. وفي كتاب "التعريفات"، التأويل يعني: "الترجيع، وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله...". 

أما مقاصد الشريعة، فهي تتمحور حول مصالح الإنسان، وهي: "منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد" (ابن عاشور). وهذه المصالح تتحرك داخل الكليات الضرورية، وهي حِفظُ: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض. 

لا يمكن إطلاق التأويل المقاصدي على غارِبه؛ إذ الشريعة محددة بكليات "الآيات المُحْكَمة"، والفقهاء الذين بحثوا في التأويل وفي شرعيته، حددوا أُطرًا وشروطًا له. فالغزالي مثلًا: يشير في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" إلى أن المؤوِّل هو: "الماهر الحاذق في علم اللغة، العارف بأصول اللغة، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها وتجوُّزاتها، ومناهجها في ضروب الأمثال". فنراه يعدد صفات عدة يجب توافرها في الشخص المؤوِّل، مثل: المهارة في استعمال اللغة العربية، والعلم بأصولها، والمعرفة لعادة العرب في استعمالها الحقيقي والمجازي، إضافة الى معرفة مناهجهم في ضرب الأمثال (أي استعمالها). أما ابن رشد، فيرى أن ما يَقبل التأويل، هو الآيات التي يتعارض ظاهرها مع باطنها. فالحق لا يُضادُّ الحقَّ، بل يؤكده ويشهد له.

أما شروط التأويل، فقد حددها الزركشي في ثلاثة: موافقة الوضع اللغوي، أو عُرْف الاستعمال، أو عادة صاحب الشرع، بحسب ما ورد في البحر المحيط. 

ينقلنا هذا الكلام إلى مقاصد الشريعة. فشروط التأويل لا بد أن تنسجم مع مقاصد الشريعة -بحسب ابن عاشور-، ومراعاة الأحكام القطعية الكلية. ولهذا، على الفقيه المجتهد مراعاة شروطٍ خمسة هي: فهم أقوال الشريعة (لغةً واستعمالًا)، والبحث عما يعارض الأدلة، والقياس، وإعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس، لا يُعرَف حُكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا نظير له يقاس عليه، وأخيرًا: تَلقِّي بعضِ الأحكام الشرعية الثابتة عنده (أي المجتهِد) تَلقِّي مَن لم يعرف علل أحكامها، ولا حكمة الشريعة في تشريعها.

الانضباط في الاجتهاد لا يعني بأي حال من الأحوال إلغاء دور العقل، ولا يلغي حرية الاجتهاد. فالتأويل المقاصدي لا بد أن ينضبط بضوابط عامة تعصمه من الاختلال، وتخرجه من دائرة الأهواء والرغبات الفردية الخاصة. ولهذا، فإن التأويل الصحيح والنافع له مواصفات ذكَرها البغدادي في كتابه "قانون التسبيح"، وهي: مَصدره الحق والثبات، ومنهجه ثنائية المُحْكَم والمُتشابِه، وغايته بيان أحكام الله تعالى ومعاني كتابه؛ أي أن منهج التأويل لا بد أن يتحرك داخل القرآن نفسه بوصفه مَصدرًا، وبوصفه منهجًا وغاية. 

في هذا الإطار يمكن القول: إن أَمام التأويل المقاصدي مهمات كبيرة، ينبغي أن ينبري لها المختصون/ات من أهل العلم الشرعي، لأن التأويل المقاصدي -وبحسب ما تَبيَّن- هو عمل فقهي، واجتهاد من الفقيه العالم بأصول الفقه ومقاصد الشرع. فيصبح البحث عن أحكام تتعلق بقضايا العملات الرقمية والتداول المالي والمسائل البيئية والصحية، حتى بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية ومختلف مسائل العصر، ضرورةً حقيقية لاستنباط أحكام، إِمَّا بتحريمها أو إباحتها، ليَسهل على العامِّيِّ/ة من غير ذوي الاختصاص التعامل معها بوضوح وببساطة. فما دامت الشريعة قد أُنزلت لمصلحة البشر، فليس على المجتهدين/ات إلا الاجتهاد في سبيل تحقيق تلك المصلحة، وما التأويل المقاصدي المنضبط بضوابط الشريعة الإسلامية، إلا أحد السبل إلى ذلك الغرض.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive