في عام 1979 أصدر الشيخ جاد الحق علي (مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر الأسبق)، فتواه بجواز نقل عضو أو جزءِ عضوٍ من إنسان حي متبرع لوضعه في جسم إنسان آخر، مؤكدًا أن الإنسان لديه ولاية من الخالق على أعضائه، ويحق له التصرف فيه لإنقاذ حياة شخص آخر. أيضًا يجوز قطع العضو أو جزئه من الميت إذا أوصى بذلك قبل وفاته، أو بموافقة عَصَبتِه (أبنائه وأقاربه الذكور من جهة أبيه)، وهذا إنْ كانت شخصية المتوفَّى وأسرته معروفِين، وإلا فبإذن النيابة العامة.
هذه الفتوى خرجت وسط جدل واسع حول قضية التبرع بالأعضاء في السبعينيات بين المؤسسات الرسمية، كوزارة الأوقاف المتمثلة بالشيخ الشعراوي الذي كان يرأسها في ذلك الوقت، والذي بدوره رفضها وأعلن حُرمانية التبرع بالأعضاء، حيث صرح في مقطع مصور شهير له قائلًا: "لو أن الإنسان ملَكَ ذاته وأبعاضه ليتصرف فيها، لمَا حرم الله الجنة على المنتحر، فلا يأخذ الحياة إلا من يملكها". وظهر الجدل مرة أخرى في سنة 2009، حينما أعلن الشيخ محمد سيد طنطاوي تبرعه بقرنية عينه بعد وفاته، وذلك خلال مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية، مؤكدًا أن نقل الأعضاء الآدمية من إنسان تُوفي حديثًا إلى آخر حي، محلَّل شرعًا.
كل هذا الجدل يبدأ من جديد في سنة 2022، بعد أن صرحت الفنانة المصرية إلهام شاهين توثيق تبرعها بأعضائها بعد وفاتها في الشهر العقاري، وهو أمر مكفول في القانون المصري منذ سنة 2010، حيث أجازت الدولة التبرع بالأعضاء من خلال القانون رقم 5 لسنة 2010، الذي نص في مادته الرابعة على أنه: "لا يجوز نقل أي عضو أو جزء من عضو أو نسيج من جسم إنسان حي لزرعه في جسم إنسان آخر، إلا إذا كان ذلك على سبيل التبرع فيما بين الأقارب من المصريين".
يختلف المجتمع المصري في هذه القضية بين مؤيد ومعارض، إذ نجد أصواتًا تعلو بإنسانيتها، وتشرح كيف يمكنك أن تنقذ حياة إنسان بعد أن تموت، ويبقى عملك الصالح مستمرًّا. أيضًا نسمع أصواتًا أخرى تتبنى فتوى الشيخ الشعراوي -والشيخ أحمد كريمة الذي وافقه الرأي- في تصريحه بأن الإنسان لا يملك جسده ولا يملك التصرف فيه، وأن عقود التبرع بالأعضاء هي باطلة، لأن جسد الإنسان ملك لله وحده، وأن الموت الإكلينيكي ليس موتًا شرعيًّا، ومِن ثَمَّ فإنَّ نزع أي عضو من جسد الإنسان المتوفَّى يُعتبر جناية يستحق فاعلها القصاص.
ثم إن هناك موروثًا ثقافيًّا واجتماعيًّا، يرى قدسية للجسد منذ الفراعنة، وتتفق عليها الديانات الإبراهيمية. هذا الخلاف يقف عائقًا أمام إنقاذ حياة عدد كبير من المرضى، إذ بحسب تقرير صحيفة "إندبندنت" العربية، فإن هناك نحو 600 ألف شخص يموتون في مصر سنويًّا، وقد يكون تبرُّع 20% منهم فقط بأعضائهم، كافيًا لحل مشكلات طبية كثيرة للمرضى، ثم إنه ينهي تجارة الأعضاء التي تنشط بسبب عدم وجود إطار شرعي للتبرع بأعضاء المتوفَّين، أو نقل أعضاء الأحياء.
وبنظرة سريعة إلى الدول المجاورة، مثل: السعودية والإمارات ولبنان وقطر والمغرب والعراق، نجد أن كل هذه الدول نجحت في تسهيل خطوات التبرع؛ ما يشجع المواطنين على اتخاذ القرار دون التأثر بالجدل المطروح. وأيضًا نجحت بعض الدول في استخراج بطاقة تبرع -وهو ما يُقترح الآن في مصر- لكل مواطن، يمكنه من خلالها توثيق رغبته وموافقته على التبرع، عبْر إجراءات بسيطة، وبسرية تامة.
يمكن للمتبرع عند موته إنقاذ حياة ثمانية أشخاص، ويمكن أيضًا لكل متبرع بالأنسجة تحسين حياة ما يصل إلى 75 شخصًا -بحسب مؤسسة Gift of Life-. وعلى سبيل المثال: في الولايات المتحدة يجري يوميًّا إنقاذ أكثر من 90 شخصًا، من خلال زراعة أعضاء من متبرع متوفًّى، مع أنه ما زال ما يقارب من 20 شخصًا يموتون يوميًّا في انتظار عملية زرع لا تأتي أبدًا. تلك الأرقام التي قد تحسم الجدل بين المؤيدين والمعارضين لقضية زراعة الأعضاء عندنا، نرى الأثر الكبير والواسع لها في حيوات البشر، ووضع حد لمعاناتهم، والخروج من مجرد جدل ديني يقف عائقًا بين إنقاذ البشر وتركِهم شبه أموات يعانون حتى النهاية. فنرى كيف أن ضيق الأفق على مر سنوات، حرم الكثير فرصة الحياة بصحة جيدة. إلا أنه ما زالت الفرصة قائمة، والعلم في تطور.
واليوم نرى العديد من المواقع التي تسهل للمتبرعين التسجيل والتواصل مع المستفيدين، وأيضًا نرى خطوات جدية من الحكومة المصرية للانفتاح على عالم زراعة الأعضاء بشكل قانوني منجز، لمواكبة بقية دول العالم، والتي تسمح الآن لمواطنيها بالتسجيل والتبرع في خطوة واحدة، دون عمل روتيني طويل الأمد، أو تعقيدات دينية واسعة، وهو ما يعانيه المتبرعون الآن في مصر، حيث هناك تحركات فردية للتبرع من خلال التوثيق في الشهر العقاري، كما فعلت إلهام شاهين.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.