في كتابها "غرفة تخص المرء وحده"، أوضحت الكاتبة "فرجينا وولف" أنها تنقلت بين المكتبات بحثًا عن أجوبة عن تساؤلاتها عن أسباب فقر المرأة، لكنها ذهلت بكمية الكتب التي كتبها رجال عن نساء. استغربت فرجينيا لقلة عدد النساء اللواتي يكتبن عن الرجال، وتساءلت عما يجعل النساء موضوعًا مثيرًا في كتابات الرجال، ولماذا يكتب كثير من الرجال عن المرأة ما هو غير حقيقي، ولماذا يقلل من شأنها في كتاباته!
تعثرت فرجينيا بكتاب يحمل عنوانًا صادمًا "المرتبة العقلية والأخلاقية الدنيا للمرأة"، فثارت غضبًا، حتى أنها رسمت للكاتب صورة تشبه الشيطان دون أن تعرفه أو تراه. وهنا أدركت فرجينيا أن الغضب هو الذي يشوه صورة الآخر الذي لا نعرفه، ويفقدنا مصداقيتنا في وصفه، وأن الكتب المسيئة للمرأة كُتبت في ضوء العاطفة والغضب من المرأة، لا في ضوء الحقيقة. إذًا، الكتّاب الذين أهانوا المرأة في كتاباتهم كانوا غاضبين، ولعل هذا ينطبق أيضًا على المُشرِّعين الذكوريين أو المدافعين عن التمييز بين الجنسين. فلماذا يغضب الرجل من المرأة، خصوصًا وأن إنكلترا في ذلك الوقت كانت مجتمعًا أبويًا؟ الرجل له السطوة والتأثير، وهو صاحب الجريدة والأعمال والوظائف العليا. فلماذا بعد كل هذا هو غاضب؟
تقول فرجينيا: إن الرجل كان يبحث عن قيمته، بأن يجعل قيمة المرأة أدنى. فالحياة صعبة بلا شك، وجهاد مُضنٍ ومستمر، تتطلب ثقةً بالنفس؛ إذ بدونها نصبح كالرضيع في المهد. ومن الناس من يعتقد أن الثقة تكون بأن نضع الآخر في درجة أقل من درجتنا، والمرأة لعبت هذا الدور قرونًا طويلة، إذ عمِلت عمل المِرآة العاكسة، التي تُظهر الرجل بحجم مضاعِف لحجمه الطبيعي. إن المرايا -مهما كانت استعمالاتها في المجتمعات المتحضرة- يظل وجودها جوهريًّا في كل أعمال البطولة، وهذا سبب لامتعاض الرجل من أن يأتيه نقد من امرأة، وهذا هو سبب غضبه من المرأة، التي تحاول إثبات نفسها وإظهار قيمتها الحقيقية، فتكسر هذه المِرآة المكبرة، وتهز ثقة الرجل الذكورية.
الرجل عندما يكتب عن المرأة، كثيرًا ما يكتب بالعاطفة والغضب، ولا يكتب قاصدًا الحقيقة. يكتب ما يجعله يثبت بقاء المرأة في مكانها، باعتبارها مِرآة عاكسة لما يحب أن يرى فيه نفسه، وما يبقي على ثقته بنفسه. وهذا ينطبق على المشرِّع الذي يساهم في وضع القوانين، ويرفض تغيير ما يؤثر سلبًا في صورته أمام نفسه.
اليوم تغيرت الظروف، وبات في إمكان المرأة الكتابة عن نفسها ومشاعرها ورغباتها، ووجد الرجل نفسه مضطرًا إلى التوقف عن الكتابة بالنيابة عنها، أو على الأقل بات أكثر سعيًا للحقيقة؛ إذ الصوت الآخَر أصبح عاليًا ومسموعًا، إلا أن المشرِّع ما زال يقاوم هذا التغيير -وإن كان آتيًا لا محالة-.
لكني اليوم أمام فخ آخر، وقعت فيه بنفسي. فالغضب نفسه الذي أدينُ له بإمدادي بوقود التمرد والسعي للتغيير، أصبح هو المتحكم فِيَّ. خطأ وقعت فيه أنا وغيري، وأصبح من الضروري أن أتوقف لحظة وأعيد الأمور إلى نصابها. فالخطأ يصبح خطيئة إذا تَكرر، والكتابة يجب أن تكون بقلم الحقيقة، لا بقلم الغضب والعاطفة. وإن كان غضب المرأة مشروعًا بسبب كل ما مورس عليها من قهر وظلم، أفسدَا حياتها وقيَّداها في سجون العيب والممنوع، فإن للغضب قيودًا محددة للعقل. وعليه، يصبح الغضب قامعًا للحرية إنْ تَحكَّم فينا، بدلًا من أن نتحكم نحن فيه.
لا ينطبق الأمر على الموضوع النسوي فقط، بل حتى إن المُدافع عن قضايا الحق الكبرى خاسر، إنْ جعل الغضب ربَّانًا له في رحلة دفاعه عن قضيته، وهذا ما نراه أمامنا في وسائل التواصل الاجتماعي. فقد يدفع الغضبُ المُدافعَ إلى التعبير بأساليب فظة تُبعد الناس عن الاهتمام بقضيته، فيسيء لها ويلحق بها الأذية.
الغضب يساعدنا على التمرد، فنَقوى لننتزع حقوقنا المسلوبة، لكنه وحش يغطينا بعباءته، فيمنع عنا الرؤية. وقد نصل إلى مرحلة يُفقدنا فيها الغضب بصيرتنا، فننظر إلى كل تجربة من زاوية واحدة، ونسقط تجربتنا الشخصية المتفردة على تجارب الآخرين المختلفة، ونفقد الحياد ونظلم الآخرين. ما علينا فِعله بعد النجاة، هو الخروج من شرنقة الغضب إلى فضاء العدالة، وأن نستخدم الغضب، لا أن نجعله يستخدمنا. لقد نجونا بسببه من القيود، وحان أن نتحرر من قيوده هو نفسه، لننظر إلى الحياة نظرة شاملة، نبتعد فيها عن تقييم المواقف والأحداث من خلال النفق الذي عبَرناه بشق الأنفس.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.