التعميم، ذاك العدوّ الأوّل للتواصل، وذاك الماكر المُتخفّي في سياق معظم الأحاديث والنقاشات والنزاعات، يمرّ مرور الكرام، وكأنّه جزء من طبيعة التعبير، أو كأنّه بريء من الإساءة، أو كأنه شكل من أشكال الكلام غير المقصود، أو كأنّه يَتّهم السامع(ة) بِـ"سوء النيّة وعدم فهم المقصد"؛ لكنّه في الواقع سَمٌّ مدسوس، وجزء أساسيّ من النزاعات الثقافيّة الكُبرى.
أنتم …، هم …، كلكم … (يمكنك ملء الفراغ بكل ما شئت). بضعة أحرف من اللغة الغنيّة بالمفردات، كافية لتشويه أي نيّة حسنة في الكلام. فكلّ إنسان فريد من نوعه، لا شبيه له، مهْما شارك غيره في صفات أو انتماءات. وكلُّ بشريٍّ يسعى بشكل طبيعيّ لعيش فرادته، حتّى ضمن المجموعة. فكيف لا يتأذى من يُقال له -غالبًا في الوصف السيِّئ- إنّه كما الكلّ؟! وقد يُطلِق بعضهم نعوتًا، مثل: أنتنَّ النساء كذا، أنتم الرجال كذا، أنتم العرب كذا، أنتم المسلمون كذا، أنتم المسيحيّون كذا، السياسيون كذا، المتديّنون كذا، العلمانيون كذا. اللائحة لا تنتهي، وغالبًا ما تكون كلمة "كذا" صفة بشعة، أو صورة نمطيـّة جاهلة، تضع الآلاف -بل الملايين- من البشر في سلّة عمياء واحدة.
أغلبُنا يُعمِّم دون سوء نيّة. فالتعميم يأتي من صور نمطيّة تتكوّن لدينا، إمّا بعد سلسلة تجارب، وإمّا مُتأثّرةً بخطاب منتشرٍ في بيئةٍ ما، وإمّا بالتربية. والصّور النّمطيّة كما هو اسمها "نمطيّة"، لا تَعكس الواقع كاملًا، وغالبًا ما تَحدّ من إمكانيّة بناء جسور التواصل البنّاء بين البشر. الصور النّمطيّة ليست سيّئة بالمُطلق -وهذا قد يكون موضوع مقالة أخرى-، لكنّها أسوأ ما في التواصل والحوار، لأنّ نتيجتها هي تَوهُّم المرء أنه يملك الحقيقة عن الآخر، خاصّة حقيقة صِفاته(ها) وقدراته(ها). يعطي التعميم الشعور الخاطئ بالسّلطة والمعرفة، وكأنَّ المُتحدّث(ة) يقف على مسطبة، مُعتقدًا أنّه(ها) على رأس جبل.
"أنتنّ النساء حسّاسات، ضعيفات، لا تفقَهْن القيادة. دَعْنَها للرجال، لأن على القادة أن يتمتّعوا بالقوّة والقسوة والخشونة". في هذا التصريح المَثَل تعميمان: تعميم أن كلّ النساء غير قويّات، وحسّاسات إلى درجة "شلّ" قُدراتهنّ، ومِن ثَمَّ لا يمكنهنّ القيادة السياسية أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة؛ وتعميم أن كلّ الرّجال بلا أحاسيس، قاسون، خشنون، بلا رحمة، وأنّهم جميعًا أقوياء، ومِن ثَمّ قادة. في كلا التعميمين إساءة لكلّ مَن هم خارج هذه الصورة النّمطيـّة (نساءً ورجالًا). هنالك أيضًا صورة نمطيّة خطيرة عن "القوّة" ومفهومها وتوصيفها. فبأيِّ قوّة نتحدّث؟ بالقوّة الجسديّة أم العقليّة أم النفسيّة أم قوّة التحمّل أم قوّة العُنف؟
من الطبيعيّ عند سماع امرأة بهذا التصريح، وهي في موقع رياديّ أو لها تجارب رياديّة نسائية، أن تَشعر بالإهانة. وعند سماع رجل بهذا التصريح، وهو غير مهتمّ أو لا يملك صفات قياديّة أو ضعيف البِنْية، أن يشعر بالضغط، لأنّه لا يُمثّل هذه الصورة النّمطيّة. وأيضًا التعميم يَضرب بِعُرْض الحائط كلَّ التجارب الناجحة خارجه. وفي لحظة، تختفي كلّ النساء الرياديّات في كل المجالات، ويختفي كلّ الرجال الرياديِّين في التعاطي البنّاء واللطيف والمُعتدل. فجأة، تَحتَّم على النساء البقاء في قمقم الضعف ودَور الضحيّة، وعلى الرجال الانتفاخ في الخشونة والقوّة الجسديّة وصورة القائد.
عندما يسمع المسلمون تصاريح مثل: "المسلمون متطرّفون"، مِن الطبيعيّ أن يَغضبوا، وأن يَشعروا بالمظلوميّة، لأن الواقع لا يشبه هذا التعميم الأعمى. وعندما يسمع المسيحيّون تصاريح مثل: "المسيحيون كفَرة"، مِن الطبيعي أيضًا أن يغضبوا ويَشعروا بالمظلوميّة والإساءة، لنفس السبب. الأمثلة تطول ولا تنتهي. عندما نتمثَّل في التعميم دَور "الضحيّة"، تمتلكنا مشاعر الظلم والغضب والحقد، لكنّنا عندما نتمثّل في التعميم دور "المُرتكِب"، نَشعر بامتلاك المعرفة والمُعطيات لشكلٍ من أشكال السيطرة. أيضًا التعميم الإيجابي عدوٌّ مَخفيّ، لأنّه يُلزِم المُتلقّي(ة) صورة واحدة، عليه(ها) اعتمادها دائمًا، للإبقاء على هذا الإطراء المسموم.
إذًا، كيف نَخرج من لُعبة التعميم؟ إنَّ الاعتراف بقيامنا بالتعميم هو المفتاح الأوّل، ثم تصحيح كلامنا عندما نعمّم، بقولنا: "لم أَقصِد التعميم"، و"أعتذر لأنّي عمَّمت". وأيضًا استبدال كلمات "كلّ" و"أنتم" و"هم" عند الكلام عن مجموعة من البشر، بكلمات مثل: "بعض"، أو "مَن أَعرِفهم"، أو "بحسب خبرتي الضيّقة التي لا تَعكس كل الواقع". ويمكننا إضافة: "برأيي"، أو "أظنّ"، أو "أَشعر" (أي التكلّم بصيغة الأنا).
التغيير يبدأ من عند كلٍّ منّا. فلنُغيّر أسلوبنا في الكلام، ولْنعترف بأننا لا نملك كامل الحقيقة عن الآخر، ولْنستبدل التنظير عن بُعد بحُبّ المعرفة للآخر الفريد من نوعه مِثلنا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.