كثيرًا ما نسمع بأن السفر وحده ثقافة ومعرفة، وأيضًا بأن الأغلبية تمتدح التعرف إلى بلدان ومجتمعات جديدة، بغية التعرف إلى ثقافتها وأسلوب حياتها، وإلى مطابخها وتراثها وآثارها وطقوسها وكل ما فيها، وهو ما قد لا يكون في مجتمعات أخرى. هناك من يدفع الأموال ليصل إلى بلاد بعيدة، من أجل التعرف إلى مجتمعاتها، وهذا دليل على أن الإنسان يبحث عن التنوع.
بلدان كثيرة قد تُوفر لك التعرف إلى جزء ليس بالقليل من المجتمعات البشرية، نتيجة التنوع الذي تتمتع به. ومن هذه البلدان العراق، الذي يزخر بمجتمعات متنوعة من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. لكن، هذه كلها لم تتحول -يا للأسف- إلى فرصة لبناء الدولة، بل تحولت إلى أداة لتدميرها. لقد صوَّر الساسة للشعب، أن التنوع في العراق مرتبط بشكل أو بآخر بالمحاصَصة السياسية: هذه للشيعة، وتلك للسُّنة، ومثلها للكُورد. فخلقوا حالة من الربط بين التنوع والمحاصصة، حتى بات الناس يشتمون التنوع. نعم، يشتمون هذه النعمة، لأنها استُغلت في تدمير الدولة العراقية.
بصراحة، في أوقات سابقة وبسبب الصور النمطية، كنّا نَنفر من بعض المجتمعات -وربما- حتى هذه اللحظة، لكن بشكل أقل، مثلًا: “الشيعة يعبدون الإمام عليًّا”، و”الإيزيديون يعبدون الشيطان”، و”الصابئة لا يغتسلون”، و”السُّنة يكرهون أهل البيت”، و”الكورد عنصريون”، وُصولًا إلى قائمة طويلة من الصور النمطية، التي تجعلنا أمام شيطنة للآخر المختلف. لقد بدأت الشيطنة من الصور النمطية، وبدأت الصور النمطية من عدم التقارب والتواصل. وربما بسبب الوضع اليوم -مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي والتقارب الذي نتج من لقاءات فردية وجماعية بين المجتمعات-، خفّت تلك الصور، لكنها لم تنته؛ إذ عمد بعضهم إلى إيجاد مساحات أخرى لإنهاء هذا التنوع، والعمل على تحويله من مصدر قوة إلى مصدر خوف وقلق واختلاف.
لعبت الحرب الطائفية بين عامَي (2006 – 2007) دورًا في التغيير الديموغرافي، بحيث صارت هذه منطقة شيعية، وتلك سُنية، وهذه مسيحية… إلخ. فوُلدت أجيال بعد تلك الفترة لا تعرف عن الآخر أي شيء، بل تعرف أن هناك فئة مجتمعية تعيش معها، لكنها من الدرجة الثانية. إن دولًا عديدة ذات لون واحد على مستوى الدين واللغة والمذهب وغير ذلك، تحاول قدر الإمكان شراء التنوع وصناعته في أراضيها، عن طريق استقطاب الأجانب وبناء معالم وصروح دينية لديانات أخرى. كل هذا مِن أجل مَن؟ من أجل مجتمعاتها؛ لأنها أدركت -ولو بنحو متأخر- أن التنوع استثمار طويل الأمد، وفرصة استقرار مستدامة.
مع قرب موعد الانتخابات المبكرة في العراق، التي ستجري بعد نحو تسعة أشهر من الآن، عادت أطراف سياسية إلى محاولات تصدير الخطاب الطائفي من جديد. وهذه المرة ليست بشكل مباشر من قِبلها، أو من قبل أئمة جوامع ورجال دين مثلما كان سابقًا. فعلى العكس، هذه المرة ستكون عبر وسائل إعلام، وشخصيات إعلامية لديها شهرة في مواقع التواصل الاجتماعي. فتُصوِّر هذه الفئة من مروِّجي خطاب إلغاء الآخر والتشكيك فيه، ومحاولات تجريده من قيمه وأخلاقه، أن وجود الآخر يشكل تهديدًا لوجودهم. وهذا في حد ذاته بداية ودعوة إلى الإقصاء، الذي لم يُعرف حتى الآن إلى ماذا سيؤدي في المستقبل.
لا يُريد أن يقتنع هؤلاء، بأن الله جل علاه لم يخلق الناس متنوعين/ات وغير متشابهين/ات عبثًا. فلو أراد أن نكون متشابهين/ات، لفعل ذلك. فلماذا نذهب إلى تغيير ما أراده الخالق؟ إن نِعمة التنوع التي يجب ألا تكون عامل ترهيب وتخويف، بل عامل قوة وتقارب، تحولت -ويا للأسف- إلى عزل وضعف للجميع. مع هذا كله، نتج خطاب كراهية كبير، خطاب بُني على أساس أن الآخر المختلف عني يجب أن يشبهني -ولو أُجبر على ذلك-، أو سأعتبره خصمًا وعدوًّا. نعم، هذه المعادلة هي التي يُراد لها أن تكون في العراق.
نظام هذا الكون مبني على أساس التنوع. فقوله تعالى: {ومن آياته خلْقُ السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لَآياتٍ لِلعالِمِين} [الروم: ٢٢]، لم يكن لولا أن في التنوع ما ينفع الإنسان، وما يُغنيه ويُساعده على تسيير أمور حياته. أما الأفكار والتفكير الإقصائي، بواسطة اعتقاد أن فردًا أعلى قيمةً من غيره، فما هو إلا رفض لنِعمة ربانية. نعم، أنا أصف التنوع نِعمة، فمن نحن حتى نرفض نِعم الخالق؟
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.