أعادت جريمةٌ شنيعة ذهبت ضحيتها فتاة قُتلت بطريقة بشعة، حيث عمد الجاني إلى اغتصابها ثم ذبحها وتقطيع أوصالها، الجدلَ حول تفعيل عقوبة الإعدام، التي جرى تعليق العمل بها منذ العام 1991 في تونس. وتزامنت موجةُ الاستنكار العامة مع حرب إعلامية، بين مؤيِّدي القصاص لمرتكبي جرائم القتل والاغتصاب ومدافعين عن حقوق الإنسان ورافضي الإعدام، الذين يرون أن المجرم له الحق في الحياة رغم بشاعة ما ارتكبه، وأن الإحصائيات تُبيِّن أن تشديد العقوبة لا يحد من الجريمة.
في قراءة أمنية لواقع الجريمة في تونس، تَبيّن أن عدد الجرائم بين كانون الثاني/يناير 2019، وشهر تموز/يوليو من نفس السنة، بلغ 150 ألف جريمة. أما جرائم العنف، فبلغت40 ألف جريمة من إجمالي الجرائم. وتُجسد هذه الأرقام استفحال الإجرام المنظم والمجاني، وانتشار ضروب التدمير والتدمير الذاتي في بلدنا. وهي قد تعكس هشاشة الانتقال الديمقراطي من جهة، وتفكُّك المنظومة السائدة من جهة أخرى. فالمنوال التنموي القديم لم يُعطِ الرفاهة الموعودة، بل عكْسها ونقيضها، حيث تحولت أحزمة المدن التونسية إلى مصانع للعنف والجريمة، نتيجة: اقتلاع الآلاف من بيئتهم الأصلية، وعجز السياسات عن إدماجهم في المؤسسات التعليمية أو الدوائر الاقتصادية العصرية، وتفشِّي اليأس من المستقبل.
أدت ظاهرة تفشي العنف هذه إلى تأجيج المخاوف والانفعالات البدائية، والاستسلام للحلول الجاهزة، وردود فعل دفاعية أهمها المطالبة بتفعيل حكم الإعدام. ويبدو أنه من الضروري اليوم تجاوُزُ الحسِّ المشترك، والبداهةِ الخادعة والسطحية التي تقدِّم نفسها بوصفها حقائق نهائية واثقة من نفسها، وفتْحُ حوار مجتمعي حول عقوبة الإعدام.
تهدف بيداغوجيا هذا الجدل إلى الإجابة عن أسئلة محورية: أيَّ مجتمع نريد؟ وأيَّ منظومة عقابية نعتمد؟ وهل نطمح إلى القطع مع دائرة إعادة إنتاج العنف والاستثمار في الإنسان، وإرساء سياسات عامة ترتكز على التربية وثقافة الحياة والأحياء؟ أم نريد التسمُّر في منطق القصاص الثأري القائم على الانتقام من الجاني والتنكيل به، شفاءً لصدور عائلة الضحية، وأملًا في استئصال الجريمة وارتداع المعتدين رعبًا من فظاعة حكم الإعدام؟ إن الجواب عن هذه التساؤلات سيجعلنا إما ننخرط في نادي الشعوب المتحضرة، أي أكثر من ثلثي بلدان العالم التي ألغت عقوبة الإعدام قانونًا أو ممارسة؛ وإمّا البقاء على هامش التطورات الحديثة في منظومة الإصلاحات الجزائية وعقلنة العقوبات.
يفترض أن كل الأديان والشرائع تصبو إلى الارتقاء بالإنسان، من قانون الغاب إلى التهدئة والرصانة، ومن تغوُّل الغرائز والانفعالات إلى سيادة العقل والتسامي. والجدير بالذكر أن أغلبية المناصرين لتفعيل حكم الإعدام، يقدِّمون مفهوم القصاص على اعتبار أنه أمر قُرآني ينتظم وفِقْهَ العلاقات الاجتماعية. بيد أن المتأمل في مقاصد الشريعة يرى أن الإسلام فتح أبواب الاجتهاد على مصراعيه، وحثَّ على البحث عن قرينة البراءة، وعن ظروف التخفيف في حديث: “ادرَؤُوا الحدود بالشبهات”، لتَجنُّب تطبيق الحدود. وهذا في سياق تكريم الإنسان، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {ولقد كرَّمْنا بني آدم} [الإسراء: 70]، {يريد الله بِكُم اليُسْرَ ولا يريد بِكُم العُسْرَ} [البقرة: 185]. ويُربَط القصاص بالحياة في سورة البقرة، الآية 179: {ولَكُم في القِصَاص حياةٌ يا أُولِي الألباب}.
في تماسُك منطقي، وقع تخيير محيط الضحية بين قتل القاتل، وقبول الدِّيَة، والعفو عن المجرم. يَروي لنا الإمام الطبري عن ابن عباس في تفسير الآية 33 من سورة “الإسراء”: {ومَن قُتل مظلومًا فقد جعَلْنا لوليِّه سلطانًا فلا يُسْرِفْ في القتل إنه كان مَنصورًا}، أيْ إنْ شاء وليُّ القتيل طلَب قتل القاتل، وإن شاء أخَذ الدِّيَة، وإن شاء غفر وعفا عن القاتل. وهنا، أصبح النص القرآني يتضمن مصطلحًا جديدًا في المنظومة الجزائية القديمة، وهو “الدِّيَة”. وهذا ما يسمح بتأويل جديد، للحكم على القاتل بدفع أموال وتعويضات. وهنا، جمعت الشريعةُ بين العدل والرحمة، وتضمنت خياراتُ العفو والدِّيَة إمكانيةَ إلغاء عقوبة الإعدام.
إن إزهاق الروح البشرية الناجم عن عقوبة الإعدام ليس بالهين، إضافةً إلى أنه فعل لا يمكن تداركه، وعلمًا أنه لا وجود لنظام قانوني مكتمل ومعصوم عن الخطأ القضائي. وبالتالي فالحد من هذه العقوبة يدعم برأيي انتقالنا من الهمجية إلى الحضارة ومن الغريزة الى العقل .
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.