تاريخ وعي الإنسان وتكامله، هو تاريخ وعيه بأخطائه وتجاوزها. فالحياة لا تُعلِّم إلا من يعترف بأخطائه، ومن لا يعترف بأخطائه لا يتعلم؛ إذ التعلم هو فن الإصغاء والاستيعاب والتفكير، والاعتراف بالأخطاء بلا شعور بالخوف. كل من لا يعترف بأخطائه، سترغمه الحياة على تكرار فشله. فالأخطاء أعظم معلم في الحياة، لمن يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ. ومن لا يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، لا يمتلك أية قدرة على تغيير ذاته، ولا يمتلك أية قدرة على تغيير العالم. من يعجز عن تغيير ذاته، يعجز عن تغيير العالم. وخوف الإنسان من التغيير، خوف من اعترافه بأخطائه.
التربية على الخوف من الخطأ والتنكر له، تضعف قدرة الإنسان على اكتشاف نفسه، أو التعرف إلى التضاد في طبيعته البشرية ومواطن ضعفه وهشاشته، وتنسيه حالات عجزه في شيخوخته ومرضه وموته. التنكر للخطأ يرسخ الغرور والطغيان والتكبر والتجبر، عند كثير من الناس. واكتشاف مواطن ضعف الكائن البشري، ضرورة يفرضها الفهم الواقعي لكيفية بناء صِلاته بما يحيط به، وتحديدها في ضوء طبيعته البشرية، وبُنيته السيكولوجية، وطبيعة تكوينه، وليس وفقًا لما يتمناه، وتمليه عليه رغباته وتقديره الموهوم لمواهبه، وما يخلعه على نفسه من قدرات واستعدادات زائفة.
في مجتمعنا، الفرد برأيي لا يفكر؛ إذ الجمهور يفكر نيابة عنه. المسؤولية الفردية مستلبة. فأنت مسؤول عن الكل من دون أن تكون مسؤولًا عن نفسك، والكل مسؤول عنك من دون أن تكون مسؤولًا عن نفسك. منذ أن يبتدئ الإنسان مشوار الحياة، يمتدح الناس طاعته لاختيارات غيره له فيما: يأكله ويلبسه، أو يحبه ويكرهه، أو يريده ولا يريده. يريدون منه: أن يفكر لغيره، وأن يفهم لغيره، وأن يشعر لغيره، وأن يتألم لغيره، وأن يفرح لغيره، وأن يحب لغيره، وأن يكره لغيره، وأن يتذكر لغيره، وأن ينسى لغيره، وأن ينجز لغيره. كل ما يفعله الفرد في حياته، هو إعادة إنتاجه لصورة غيره.
في مجتمعنا، يعاد استنساخ صور متشابهة للبشر، تُستلب فيها فردية الكائن البشري ومسؤوليته. يتحدث القرآن الكريم بالفرد والمسؤولية الفردية في آيات متعددة، إذ وردت في سياقات متنوعة، منها: {كل نفْس بما كسبت رهينة} [المدثر: 38]، {ولا تَزِرُ وازرة وِزْر أخرى} [فاطر: 18]، {ولا تَكسب كل نفْس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164]، {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} [فُصِّلَت: 46]، {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولِتُجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يُظلمون} [الجاثية: 22].
لا معنى لمجتمع تعددي، من دون بناء لمعنى الفرد. فعندما يتحقق معنى الفرد في أي مجتمع، يتحقق معنى التعدد والتنوع والاختلاف. يتشكل معنى الفرد، بعد أن تترسخ تقاليد الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه. ومالم ينشأ ويتشكل وينضج مفهوم الفرد في مجتمعنا، يظل المجتمع يفتقر إلى أشخاص يمتلكون فرادة في التعبير عن مواهبهم الخلاقة، والإعلان عن قدراتهم على الإبداع والابتكار، وتميُّزًا في مواقفهم المغايرة للتفكير اللامنطقي، والسلوك اللاأخلاقي.
لا يمكن أن يتشكل معنى الفرد، في مجتمع يفرض على الإنسان الخضوع والانصياع لكل تقاليده وأعرافه، وألَّا يَخرج على النموذج الواحد المشروع، الذي يمثله “الخليفة/السلطان/الشيخ”، حتى إن كان لا يصلح -عقليًّا أو أخلاقيًّا أو سلوكيًّا- أن يكون قدوة ومثالًا يحتذى. “الخليفة/السلطان/الشيخ” يعزز حضورُه وسطوته جهلَ المجتمع وعبوديته الطوعية. لذلك، يرضخ أكثر الناس له بشكل طوعي. فهو يريد من الكل أن يروا ما يراه، ويفكروا فيما يفكر فيه، ويشعروا بما يشعر به، ويستسلموا لقراراته -مهما كانت-: {قال فرعون ما أُريكم إلا ما أرى} [غافر: 29]. مثل هذا المجتمع تسود حياته رؤية واحدة للعالم، ومعتقد واحد، وفهم واحد للحياة، ونوع واحد يتكرر من المواقف، وسلوك واحد، الكل فيه يكرر الكل.
في مجتمعنا، تترسخ تقاليد الإذعان والخضوع والطاعة العمياء، المشتقة من:
بعض التقاليد القبَلية المتغلغلة في بنية مجتمعنا.
نمط تديُّن كلامي فقهي راسخ، يضمحل فيه حضور مقاصد الشريعة وقيمها المركزية، ولا يهتم كثيرًا بأهداف الدين المحورية، ورسالته في تكريس الحياة الروحية والأخلاقية.
استبداد سياسي مقيم، متأصِّل ومتراكم عبر تاريخنا البعيد والقريب. فالاستبداد عدو معنى الفرد، والفرد يستمد معناه من الاختلاف. الاستبداد يستمد معناه من التطابق. ويبدأ الاستبداد بمختلف أنماطه، حين تَنشد التربية والتعليم محو الملامح الخاصة للكائن البشري. إن الاستبداد يشدد على الإذعان والانقياد والطاعة العمياء. وكل استبداد ينشد إنتاج نسخ متماثلة من الكائن البشري. أيضًا لا ينجز الاستبداد وعوده، إلا بمحو الفردية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.