تعيش تونس منعطَفًا خطيرًا في مسارها الديمقراطي، يُنذر بنهاية التجربة أو انحرافها. وإن حالة البرلمان التونسي كانت مثار قلق بسبب التمزق والصراع والشغب وعدم القدرة على تكوين أغلبيات مستقرة، أو مواجهة المشاكل الحقيقية للبلاد. تَشرذُم الحالة الحزبية أعطى انطباعًا بالعطالة وعدم الجدوى. ومن ناحية ثانية، تَفاقَم الفساد وأخذ أشكالًا جديدة. فعِوَض أن يكون رديفًا للحزب الواحد، أصبح أحزابًا متعددة، وأصبحت السياسة وسيلة إلى تبييض الفساد، بل إلى إدخاله البرلمان وجعْلِه شريكًا في صناعة القوانين. هذا فضلًا عن جائحة كورونا العالمية، وما انجرَّ عنها من أزمة اقتصادية خانقة. ولكن سوء الإدارة وارتباكها، جعلَا من الصعب تبرئة المسؤولين من المآلات المأساوية للوضعَيْن الصحي والاقتصادي.
لا أدري هل يمكن وصف هذه الحالة بـ"مراهَقة" سياسية، وصَلَت مباشرة إلى الشيخوخة من دون المرور بمرحلة القوة والعنفوان! القفز من الديكتاتورية إلى الشعبوية، ومِن ثَمَّ العودة إلى الديكتاتورية! من الواضح أن عملية التحوّل إلى الديمقراطية عملية صعبة ومعقّدة، تتطلب تحوُّلًا اجتماعيًّا وثقافيًّا عميقًا. في هذا المخاض، يُخشى أن يَفقد الشعب ثقته بنُخَبه السياسية، وإيمانه بإمكانية التغيير السلمي عبر صناديق الاقتراع؛ ما يجعله فريسة لحركات شعبوية أو متطرّفة مناهِضة للديمقراطية.
وعلى الرغم من هذه الحصيلة النقدية، فإنني لا أوافق مَن يصف العشرية الأخيرة بالفشل المطلق. إن هذا التشاؤم الشديد يفتح الباب أمام الديكتاتورية. فمِن باب الموضوعية، لا بد من الاعتراف بوجود إنجازات حقيقية على أرض الواقع، لعل مِن أهمها دستور 2014، على الرغم من كل نقائصه. فدستورٌ ناقص يُنتجه الشعب، أفضل من دستور "كامل" يَفرضه الزعيم الملهَم. ولكن المسار للأسف، قد ترنَّح وبدأ يسير إلى الوراء.
التحدي الأكبر الذي تُواجهه الديمقراطيات الناشئة، هو تحوُّلُها إلى مجرد شكليات وطقوس انتخابية، في مجتمع يعاني الفقر والجهل والتخلّف. فإنْ أضَفْنا إلى ذلك: المالَ السياسي الفاسد، وعدم تكافؤ الفرص، وضعف التمويل المستقل، وقلة حيلة القضاء والأجهزة الرقابية -وربما تواطُؤَها-، كلّ هذا يحوّل الحلم الديمقراطي إلى عملية "تزوير" مُشَرْعنة، أو إلى "واجهة" ديمقراطية هشة. حرية التعبير ضرورية، ولكنها غير كافية. وإنْ لم تُحقق الديمقراطية التغيير الحقيقي على الصعيدَين الاجتماعي والاقتصادي، وإنْ لم يَجْنِ المجتمع بشكل ملموس ثمار التغيير، فإن هذا الفشل سيفتح الباب أمام المصطادين في الماء العكر، وطلاب السلطة، والحالمين بالعودة إلى الماضي "التليد" (أو بالأحرى البليد). ما أصعب الديمقراطية، وما أسهل العودة إلى الوراء!
يُفترض في الديمقراطية أن تمتلك وسائل إصلاح نفسها بنفسها، وذلك عبر الانتخابات التي هي المعيار لمعرفة "إرادة الشعب"، حتى لا يصادرها أحد أو يدَّعيها أيٌّ كان. والديمقراطية تَخضع لِتَوازُن المؤسسات الرقابية التي تَحُول دون التفرد بالسلطة. هذا مع إمكانية تحسين المؤسسات والوسائل الرقابية عبر الديمقراطية نفسها. لقد أبدت التجربة نقائص دستور 2014 واختلال القانون الانتخابي، وكل ذلك يتطلب عملية إصلاح تتفادى أخطاء الماضي، وتُهيِّئ وسائل أفضل إلى تحقيق المشروع الديمقراطي. مع الملاحظة، أن الدستور لم يستكمل أركانه لغياب المحكمة الدستورية؛ ما أدى إلى حالة اختلال التوازن الحالية. هذا إضافة إلى ضرورة تعزيز القضاء، ومَدِّه بالوسائل اللازمة إلى القيام بوظيفته في مكافحة الفساد والجريمة.
لا يوجد حل آخر لتحسين الديمقراطية إلا الديمقراطية نفسها، ولا بديل عنها إلا الاستبداد أو حالات من الديمقراطية الشكلية الميتة. النخب السياسية هي صورة المجتمع، وتعكس ما فيه من نقائص وأمراض، وليست مُسقَطة عليه من الفضاء، ولا يمكن إزاحتها بِـ"جَرَّة قلم" أو استبدالها. ولكن، يمكن تطويرها وإدخال عناصر جديدة، خاصة من جيل الشباب والشابّات، حتى تكون النخب أكثر تنوعًا وتعبيرًا عن الوجه المضيء في المجتمع. ليست عملية مثالية، ولكنها عملية مَخاض عسير يتطلب الوقت والجهد. ولن تُحَلّ المشاكل بإقصاء جانب من الشعب، أو عبر كبش فداء يُحمَّل كل الشرور، في حين المسؤولية جماعية وإن كانت بدرجات متفاوتة.
إن الخروج من التخلف لا يحصل بالمعجزات، بل بالمقاومة المستمرة لأصناف الاستبداد، والانتباه للصور المستترة منه. استقلالية القضاء وقوته، ركنان أساسيان في البناء الديمقراطي. فمَن أراد الخير للديمقراطية التونسية، فعليه بدعم القضاء وإعطائه الوسائل الرقابية الكافية. فليتحمّل بعضُنا بعضًا، ولنَقبل الاختلاف والتنوع بلا تكفير أو تخوين، ولتكن أزمة عابرة لا نهاية الثورة!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.