يمثل الشر اختيارًا إراديًّا واعيًا، يعكس فيه الإنسان رغباته الجامحة وأوهامه المضطربة، وليس فكرة وافدة يلتقطها الإنسان بعيدًا عن نفسه، ليسوّغ بها سقطاته وعثراته. فلم يعد الاختباء وراء الشيطان لتسويغ الشر والفساد في مجتمعاتنا البشرية، أمرًا ينطلي على أحد. فالشر باعتباره “مشكلة بشرية”، هو ما يجعل من إمكانية مواجهته والتغلب عليه أمرًا ممكنًا، خلافًا للنظرة الشائعة، التي تجعل الشر مجسدًا في قوة غيبية بعيدة عن الإنسان، وعن تفوقه قوةً وذكاءً.
إن تشخيص الشر بذات مستقلة تحوي كل معاني الشر، يبعث في الإنسان شعورًا وهميًّا بنقائه المطلق، ويُضعف شعوره بالمسؤولية الأخلاقية عن أخطائه، ويعطيه ذريعة يسوّغ بها سقطاته وعثراته. فالشر ليس شيئًا منفصلًا عن الخير في واقعنا البشري، وكلاهما يعبران عن الطبيعة البشرية، التي تَحضر فيها الرغبات والأوهام جنبًا إلى جنب، مع سعيها نحو التقوى والبحث عن الفضيلة: {ونفسٍ وما سوَّاها، فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 7-8].
الشرور الاجتماعية والسياسية هي امتداد للشرور الفردية، التي يَشترك في المسؤولية عنها الفرد والجماعة: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسَبَت أيدي الناس لِيُذِيقهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون} [الروم: 41]. ومع تكاثر الشرور في مجتمعاتنا المعاصرة، فإن كثيرًا من الناس لا يزالون عاجزين عن مواجهة أنفسهم وأخطائهم وجهًا لوجه، ولم يَشرعوا أصلًا في مراجعة أخطائهم، فضلًا عن عدم امتلاكهم شجاعة الاعتراف والرجوع إلى الصواب.
يمثل حوار الله مع الشيطان في القرآن، صورة رمزية بليغة عن الحوار بين معاني الخير والشر، والتي من شأنها أن تعيننا على التعرف إلى مكامن الخلل والفساد في سلوكنا البشري، وليس في تقديس الصورة الرمزية للشيطان. فحوار الله مع إبليس يمثل أنموذجًا من الشجاعة في مواجهة مشكلاتنا، ومَن يتسبب بها من الناس -مهما كانت صفاتهم-. فالغاية من الحوار مع النظم الفاسدة، ليست محاولة تجميلها أو إعادة إنتاجها في الواقع؛ وإنما هي محاولة للكشف عن سَوءاتها، والتعرف إلى أسباب اختلالها، ومحاسبتها أمام شعوبها، حتى لا يميل المصلحون إلى الفساد أبدًا.
في حوار الله مع إبليس، الذي كان في منزلة الملائكة، والذي أصبح شيطانًا بعد عصيانه الأمر الإلهي مرة واحدة، نجد مثالًا لإمكانية وقوع الإنسان في الخطأ والفساد -مهما كانت مكانته الدينية أو الاجتماعية-. وهو حوار يفتح أمام الإنسان مساحة من الأمل في إمكانية التغيير والإصلاح، حتى مع أسوأ الأشخاص الذين يمثلون الشر والضلال في مجتمعاتنا البشرية. أيضًا يشير هذا الحوار إلى مواجهة الشر والفساد بالسؤال والفكرة، بهدف التعرف إلى الأسباب الكامنة وراءها.
ليس الشر بتمثلاته المختلفة ندًّا أو نقيضًا للخالق، بل إنه -ومهما كانت طبيعته الوجودية- يمثل جزءًا من العالم الذي خلقه الله. وهنا، نلمح الفرق بين الشيطان في النظرة التوحيدية، وما يقابله في التراث الديني الفارسي، والذي يتمثل بإله الشر والظلام “أهريمان”، والذي يمثل نقيضًا لإله الخير والنور “أهورا مزدا”.
لم تذكر التوراة بأسفارها الخمسة اسم الشيطان أو إبليس، وإنما مثَّل الشرَّ سفرُ التكوين في سياق قصة آدم في الفردوس، بصورة أفعى “حية”. ولم يأخذ الشيطان في الأسفار اليهودية صورته الشخصية المستقلة، إلا في الأسفار اليهودية اللاحقة للسَّبْي البابلي. وهذا يظهر أن فكرة الشيطان تطورت وتأثرت بالمعتقدات الفارسية، في القرن السادس قبل الميلاد!
النظر إلى الشيطان بوصفه شخصية تجسّد “الشرّ”، يجعل من الشر حقيقة وجودية راسخة، لا جدوى من مواجهتها دون تدخل قوة كبرى تتجاوز قدرات الإنسان ومعارفه المحدودة. وفي سياق تعميق الشعور بالمسؤولية الأخلاقية عن الفعل، نجد القرآن يؤكد دور النفس والإرادة في سلوك الإنسان. ومثال على ذلك: لا نجد ذكر الشيطان في حديث القرآن في أول جريمة قتل وقعت بين ولدي آدم؛ وإنما نجد ذكر النفس التي زينت الفعل للقاتل وشجعته على اقترافه: {فطوَّعَت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبَح من الخاسرين} [المائدة: 30]. والنفس البشرية هي التي زينت للسامِري الانحراف عن شريعة موسى، كما في قصة عبادة العجل الذهبي: {قال بصرتُ بما لم يبصروا به فقبضتُ قبضةً من أثر الرسول فنبذتُها وكذلك سوَّلت لي نفسِي} [طه: 96].
المسؤولية في نهاية المطاف، تقع على الإنسان -مهما كانت الظروف المحيطة به-. وهذا ما نجده في مشهد الحساب الأخير، الذي يتبرأ فيه الشيطان من الأشرار: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتُكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: 22].
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.