عزَمتُ على كتابة هذا المقال منذ عامين ونيف، وحاولت أن أصُوغ أي شيء يخطر ببالي، ولم تكتمل أي من الأفكار. اليوم جلست أمام الشاشة، وجربت الكتابة عن النسوية الراديكالية، واختلافها عن تلك الفيسبوكية من وجهه نظري. جربت الكتابة عن المتحرشين المقربين الذين بدأوا يَكثرون؛ جربت الكتابة عن الدين، وعن صوت مؤذِّن الحي؛ وعن فِرقة "مشروع ليلى" الموسيقية، وسبب توقفهم، وعلاقه ذلك بالإقصاء العام للهويات الملونة في المنطقة العربية؛ وعن تجربة الصيام، وعن البوذية... لكني لم أكمل أيًّا منها.
أدركت منذ مدة أنني لم أكمل تأليف هذه المقالات، لأنني لا أمتلك شيئًا أريد قوله. هكذا وببساطة! ففي عالم باتت تطغى عليه الصوابية السياسية، ما فائدة أن أقول ما يجب قوله، وأن يقرأه من يتفقون معي فقط، ثم إنْ حاولت الخروج عن مفهوم شائع متفق عليه، أو مقاربة بعض القضايا التي تعنيني بشكلٍ مباشر، أُواجَهْ باتهامات عدّة تصبح هي الموضوع الأساسي بدلًا عن الموضوع نفسه؟ فمعظمنا يعرف ما يجب أن يكون رأينا في أي قضية مطروحة قبل أن تُطرح، وقبل أن نقف عندها لنفكر فيها، حتّى لو كانت ممارساتنا اليومية تختلف مع ما ننادي به.
الصوابية السياسية هي شكل آخر من أشكال الدكتاتورية بالنسبة إليَّ. إنها دكتاتورية الأفكار المنمقة التي ترسم عالمًا مثاليًّا، إلى درجة تمنعنا من تطوير ما لدينا من تشوهات، أو تَحكمنا إلى درجة أننا في أحاديثنا اليومية مع أهلنا وأصدقائنا، نفتح قوسًا قبل جملة قد تُفسَّر بطرق مختلفة، ونحرص على أننا لا نهدف فيها إلى عنصرية أو تنمر أو تحرش أو كره، ثم نقفل القوس لنكمل حديثنا، وكأننا غرباء التقينا صدفة على مقاعد إحدى الحافلات.
هذا طبعًا لا يعني أنني ضد الأفكار التي تنادي بها الصوابية السياسية، وإنما أنا ضد الصوابية السياسية نفسها، وضد صهر الآراء الفردية تحت مسمى الحرية العامة؛ وضد الحملات التي تنادي بالحفاظ على البيئة، ثم تسمح من ناحية أخرى باستهلاك نوع معين من الخضراوات، يقطع نصف الكرة الأرضية ليصل إلى البلد الذي يباع فيه، هذا البلد الذي يلوِّث ما يلوث، ويَستهلِك ما يستهلك من محروقات، فيغلِّف هذا النوع المستورَد ويبيعه بسعر باهظ، ويَحرم سكان الموطن الأصلي لزراعته الانتفاعَ به، لكي يستهلكه سكان بلد آخر بحجة أنه بيئيٌّ أكثر من غيره!
نتحرك باعتبارنا كتلة، ضمن أفكار لا نستطيع نقدها. فلو كتبت عن النسوية الراديكالية التي أُحب، واختلافها عن تلك الفيسبوكية، لَتَحوّل الموضوع إلى اعتباري ضد النسوية، وغير مكترثة لمعاناة النساء الأخريات. ولو كتبت أنّ مونديال قطر ربما فعل الصواب عندما منع الكحول في الملاعب، لتحوّل النقاش إلى أمور كثيرة أخرى منعتها قطر، فأبدو وكأنني أدافع عن قطر.. وغير هذين المثالَين كثير.
لا أريد أن أكون مقيدة بصوت الصوابية السياسية، الذي يرنُّ في رأسي، ويهاجمني بسؤالٍ نقيض كلما كتبت عن فكرة. نعم أنا ضد التحرش، وأُصدِّق المشتكِيات الناجيات، لكنني أيضًا مع عدم جعل الموضوع أداة سلطة لعدد من النسويات على الرجل. فالنسوية -بحسب ما أراها وأحبها- هي تفكيك السلطة، وليس نقلها من الرجل إلى بعض النساء الإقصائيات، لأنهن يتكلمن بلغة الصوابية، أو إلى اللواتي لا أملك شكًّا في نواياهن تجاه القضية. إلا أنني أرغب في أن أتمكن من النقاش معهن، دون أن أجد نفسي هدفًا يُرمَى، أو يُلصَق على جبيني أحكام نمطية.
أرغب -وبشدة- في النقاش حول الأسلوب السلطوي في طرح الآراء النسوية، والذي لا يختلف عن السلطوي الأبوي في شيء، حتى وإن قالته سيدة ترفع راية النسوية. لكن، هل يمكن لهذا النقاش أن يأخذ مكانًا له فعلًا؟ أنا لا أدعي أن الحراك النسوي برمَّته سلطوي، لكني أتكلم عن أصوات نسوية معينة، وأسلوب معين، في مقاربة النسوية.
أرغب في الكتابة عن أنني لا أرى نفسي ضحيّة الرجل في المجتمع، إنما أرى أنني والرجل ضحيّتَا منظومةٍ فكرية وسلطوية، دفع كل منا ثمنها بطريقة ما، وأن الرجل حصل على امتيازات أكبر في معادلة الخسارة واستغلالها، نعم.
في عالم تحكمه صوابية سياسية، بماذا يمكن أن نتحدث؟ أنا لا أدعي أن الأفكار انتهت، لكن الدافع إلى التفكير الجماعي في موضوع معين لم يعد له قيمة. إنَّ مَيل الـ " Activism" (النشاط السياسي الاجتماعي) إلى تبنِّي الصوابية السياسية أداةً للنضال، يجعل النضال من أجل أي قضية غير واقعي، ولا يعالج الموضوع ذاته برماديته وتشعباته، إنما يكتفي بالنفي والقبول.
لربما كنت أبالغ، لكن هذا كل ما دار في فكري منذ مدة. نحن نكتب يومياتنا وأوسمتنا، ونتفق، ونصفق، ونخرج وحيدين ووحيدات لمواجهه العالم الوحشي، خارج شاشات ذاكرتنا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.