لا تغيب قضية الاحتباس الحراري وتبعاته عن حياتنا إذ باتت تظهر جليًّا في دول مختلفة من حول العالم، وتؤثر في مجريات حياة الشعوب والأفراد بتقلبات المناخ التي تثير الكثير من المشاكل: كالتصحر وتأثر الإنتاج الزراعي والحيواني والتلوث؛ مضخِّمةً بذلك من الأزمات الحيوية التي لا تحتمل تأجيلًا، لجهة التعامل معها والسعي إلى حلها، أو -أقلُّه- لِلحدِّ من تأثيرها.
يترافق كل ذلك مع أزمات اقتصادية خانقة في بلدان عديدة كلبنان وسوريا، بسبب آثار الحرب والفساد والتضخم المفرط. وبلدان أخرى ما كادت اقتصاداتها -الهشة أصلًا- تبدأ بالخروج من عنق زجاجة تأثيرات وباء كوفيد 19، حتى جاءها الغزو الروسي في أوكرانيا ليعيدها إلى مربع سابق، نتيجة الاضطرابات التي تطول موارد الغاز والنفط والقمح والزيت، وزيادة أسعارها.
مع كل هذا يبدو مشهد معيشة المواطن/ة في هذه الدولة أو تلك قاتمًا، إذ يجاهد الأفراد بوتيرة يومية لكسب الحد الأدنى من مقومات المعيشة، دون بصيص أمل مستقبلي يوحي بتحسن الأوضاع واستقرارها. وعليه، يبدو الكلام عن حقوق الإنسان والعدالة والحرية والديمقراطية والمواطنة الحاضنة للتنوع، وكأنه ترَفٌ لا وقت له في غياب أساسيات الحياة.
يمكن هنا تخيل مشهدِ حقوقيٍّ/ة أو ناشط/ة، يحاول إقناع عامل/ة -يزاول عملًا مُجهِدًا بدوام كامل أو يزيد، ويتقاضى الحد الأدنى من الأجور دون أن يكفيه كفاف قوته-، بضرورة فرز النفايات، أو المشاركة الفعالة في الحياة السياسية من خلال الانتخابات، أو استيعاب مفاهيم العيش معًا بسلام وأساليبِه. إنّ الرد المتوقع سيكون محصورًا في جواب واحد غالبًا: "دعني أُحصِّل قوت يومي ومستلزمات عيشي، قبل الكلام عن هذه الفذلكات التي لا تقدم ولا تؤخر شيئًا بالنسبة إليَّ".
يذكر هذا المشهد بهرم "ماسلو" للاحتياجات، وهي نظرية نفسية مرسومة بشكل هرم مكوَّن من خمس درجات، وضعها عالِم النفس الأميركي أبراهام ماسلو سنة 1943. تتضمن قاعدة الهرم الأولى أكثر الحاجات أولويّةً أو تأثيرًا، وهي الفيزيولوجية: كالتنفس والغذاء والماء والنوم والجنس. وفي الدرجة الثانية الأعلى تأتي حاجات الأمان، بمعنى السلامة الجسدية والأمان الأسري والوظيفي. وفي الدرجة الثالثة الاحتياجات الاجتماعية: كالصداقات والعلاقات والأسرة. وفي الرابعة الحاجة إلى التقدير، وهي تشمل الحاجة إلى الاحترام وتحقيق المكانة الاجتماعية، حيث الثقة بالنفس والشعور بالقوة. وأخيرًا في قمة الهرم تأتي الدرجة الخامسة، وهي تحقيق الذات.
يمكن استنتاج أنه في غياب الدرجتَين الأُولَيَيْن أسفل الهرم (الحاجات الفيزيولوجية، والحاجة إلى الأمان بأبعاده المختلفة)، لا يمكن الارتقاء إلى مراحل أعلى حيث يمكن التفكير في أمور أخرى، قد تبدو ترفًا لمن لا يزال يجاهد في تحقيق حاجاته الأساسية في الدرجتين السُّفلَيَيْن. وبذلك، تَظهر لنا منطقية خادعة لجواب العامل أو العاملة، الذي افترضناه في المثال السابق.
يَطرح هذا تحديًا للحقوقيين/ات والناشطين/ات، يتمثل بالسؤال: "هل من الممكن العمل على نشر خطابٍ حقوقي أو مناصرة قضية عادلة، في ظل غياب الحاجات الأساسية للمواطنين/ات في الرقعة الجغرفية (مكان النشر أو المناصرة)؟". أيضًا في مثال أكثر وضوحًا وواقعية: كيف يمكن مطالبة مواطن/ة مرهق، يتقاضى مرتبًا شهريًّا يعادل 50 دولارًا لا يوفر له شيئًا، أن يُفعِّل مشاركته في الحياة السياسية من خلال الانتخابات النيابية المقبلة، مع كل يأسه من الطبقة السياسية الحاكمة ومرشَّحيها، وفسادهم المتراكم عقودًا؟
ربما يجب هنا العمل على توضيح حقيقة أن الاهتمام بتأمين الحاجات الأساسية: كالمأكل والمشرب والطبابة والأمان -التي هي حقوق بالتعريف-، لا ينفصل عن الاهتمام بالقضايا التي تسمى "كبرى". فالاهتمام بالمَقصد الأول لا يلغي حتمية الاهتمام بالثاني، بل إن غياب الحاجات هو حافز إلى التحرك نحو نضالات أكبر وأكثر جذرية.
يشكل الاهتمام بهذه القضايا: كمكافحة الاحتباس الحراري، والمشاركة السياسية التغييرية، والمطالبة بالحرية، مدخلًا إلزاميًّا إلى تأمين الحاجات/الحقوق الأساسية المتمَوضعة في أسفل درجتَي هرم ماسلو. فتأثير: حكام البلاد وشكل الحكم، وطريقة عيش المكونات المتنوعة دينيًّا وطائفيًّا وإثنيًّا، والتلوث البيئي، وتَوافُر الحريات وغيرها من القضايا في نوعية حياة المواطنين/ات، وتوافُر حاجاتهم - هو تأثير أساسي ومتصل بشكل مباشر، وهو علاقة سبب بنتيجة. ومنه، يكون السعي لتحسين حياتي بصفتي مواطنًا/ة على صعيد تأمين احتياجاتي الأولية، وما بعد الأولية، مرتبطًا تمامًا بدوري من خلال وعيي بالشأن العام، واهتمامي بالقضايا التي تبدو "كبرى"، أو ربما تبدو ترفًا لا يعنيني في تفاصيل يومي.
هذا العمل على توضيح حقيقة "أن تأمين الحاجات الأساسية لا ينفصل عن الاهتمام بالقضايا الكبرى، أو الجهاد في سبيلها"، لا يظن أنه أمر سهل. هو معقد وصعب، ودونه عقبات كثيرة، ويلزمه فهم الواقع المحلي وطرق مخاطبته، ولكنه جانب أساسي لا بد منه لفهم تفاعل الأمور. إن التخطيط الجدي بشأن تحويل القضايا الكبرى -التي قد تبدو ترفًا لا يعني الجميع-، إلى شأن يحوز اهتمام أكبر شريحة ممكنة، يَسهل معه إحداث تغيير فعال، يؤدي إلى تحسين حياة المواطنين/ات وتحقيق رفاهِهِم.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.