اِنتَفض العالم ضدّ التمييز العنصريّ، بعد أنْ شاهد الناس جميعًا جريمة قتل “جورج فلويد”، على يد أحد أفراد الشرطة الأميركيّة. فخرج الكثير من الأميركيّين/ات والأوروبّيّين/ات في مظاهرات مندِّدة بالعنصريّة ضدّ أصحاب البشرة السوداء، حيث أفواج مِن المتظاهرين/ات مَلَأُوا الميادين في مدن رئيسة في العالم، وعمّت الفوضى شوارعَ ومناطق في الولايات المتّحدة.
الجديد هذه المرّة، ليس التظاهر ولا التضامن على مستوى عالميّ، إذْ تكرّرت هذه المَشاهد في أحداث كثيرة سابقة في العصر الحديث منذ انتفاضة السُّود. مثلًا: عندما رفضت “روزا باركر” الأميركيّة السوداء، أنْ تترك مقعدها الأماميّ في الحافلة، الذي كان مخصّصًا للبيض، أعقبَ ذلك ثورة للسُّود قادَها “مارتن لوثر كينغ”. إنَّ الجديد هو وُجود أساليب جديدة للتضامن، بعضها خاصّ بالجريمة نفسِها ويحاكي تفاصيلها المؤلمة، وبعضها يدعو إلى العودة إلى جذور الأزمة، وإلى نبش التاريخ وغربلته؛ لإحقاق الحقّ الضائع منذ عصور الاستعمار، التي عانَتْها القارّة الأفريقيّة. وهذا أمرٌ بالغ الأهمّيّة.
أصبح جورج فلويد مُلهِمًا لحركة عالميّة، أطلقت على نفسها اسم “حياة السود مهمّة”، تَضامنَ معها الناس في شرق الأرض وغربها، حيث صارت هيئة الجثُوِّ على الركبة -وهو ما فعله الشرطي الأميركي “ديريك شوفين” مدّة تزيد عن (8) دقائق على رقبة جورج فلويد حتّى قُطع نفسه-، وسيلةً جديدة إلى إثبات التعاطف والتضامن مِن شخصيّات عالميّة، في محاكاةٍ وتذكير لظروف الجريمة. أمّا جملة “لا أستطيع التنفّس”، فقد أصبحت شعارًا للمرحلة، وبيانًا لصعوبة الحياة، على أرض ضاقت على شعوب بِرُمَّتها، فخنقَتْهم عنصريّةً وظُلمًا.
الأهمّ هذه المرّة، هو لُجوء المتظاهرين/ات في أميركا وفي بريطانيا إلى الرجوع إلى الماضي، وغربلة الشخصيّات التي كانت تحظى بالتمجيد، أو كان لبعضها يدٌ في تعزيز العنصريّة عبر التاريخ، لدرجة تشييد تماثيل لها في الميادين الرئيسة، مثل “إدوارد كولستون” تاجر العبيد، الذي قام المتظاهرون/ت بإسقاطِ التمثال البرونزيّ المشيَّد له في بريستول في بريطانيا، ثمّ دحرجتِه إلى حافَة النهر ورمْيِه فيه، وسْط تصفيق حادٍّ مِن المتظاهرين/ات وتغطية الصحافة. فلم تَشفَعْ للرجل إسهاماته العديدة في دعم قطاعات التعليم والصحّة، بالمال الذي جناه مِن تجارة الرقيق، ولم يشفع له قانونيّة تجارة العبيد في ذلك الزمن؛ إذ إنَّ المرحلة تقتضي جرْدًا للماضي الأسود الذي ما يزال يلقي بظلاله على الشعوب، ويُذكِّر بمرحلة يجب أنْ يتجاوزها العالم المعاصر.
تماثيل لملك بلجيكا “ليوبولد الثاني”، قام متظاهرون بتشويهها، أو باعتلائها ووضْع عَلَم الكونغو عليها في بلجيكا، في جردة حساب مع تاريخ الرجل العنصريّ، تذكيرًا بما اقترفه مِن مذابح في الكونغو راح ضحيّتها أكثر من عشرة ملايين شخص، وأيضًا بما سنَّهُ من قوانين بالغة الإجرام، تتعلّق بقطع يد كلّ مَن لا يجني الكمّيّة الكافية مِن محصول المطّاط.
لقد أدرك العالم ربما أنّ السعيَ لمستقبل أفضل، لن يكون إلّا بإعادة تقييم الماضي، والاعتراف بأخطائه، ووضع الشخصيّات في مكانها الصحيح في كتب التاريخ. فأبواب المجد لا يَدخلها القتلة والسارقون والمُستعبِدون، حتّى وإنْ كان الهدف مصلحة أوطان تلك الشخصيّات ورفعة أماكنها بين الأمم. فكُلّ شخصيّة بَنَت مجدها على حساب استعباد الآخر وسرقة خيراته، هي شخصيّة ساقطة إنسانيًّا، وإنْ كانت تسعى لخير الفئة التي تنتمي إليها. إنَّ المعايير اليوم، هي معايير الأخلاق والمساواة والعدالة، وعلى أساس هذه المعايير يجب أنْ يُقرأ الماضي.
أمّا نحن في هذا الجزء من العالم، فلسنا بمَنْأًى عن هذه التغيّرات العالميّة، بل إنّنا أحوَج ما نكُون اليوم إلى إعادة قراءة تراثنا وتاريخنا. وأيضًا لا يخفى على أحد أنّنا بصِفتنا شعوبًا عربيّة، نُعاني بشكل مباشر ترسّبات الماضي وأحقادَه، وتُراثًا تُشكِّل أجزاءٌ منه حاجزًا أمامنا، للمُضيِّ في ملفّات حقوق الإنسان على اتّساعها. ونحن حينما نُشاهد اليوم هذه الحركة التصحيحيّة لكتابة التاريخ، نسأل أنفسنا: إلى متى المكابرة؟ وهل يجب علينا المرور في كلّ مراحل الأسى التي مرّت بها الشعوب الأخرى، للوصول إلى نفس النتيجة؟!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.