تساءلتُ طيلة طفولتي لماذا كانت أمي التي لا تتحدث إلا بالأمازيغية، تصلي طيلة حياتها بقراءة بعض آيات القرآن بلغة عربية، حفظَتها عن ظهر قلب دون أن تفهم معانيها! ولا يزال الملايين من المسلمين/ات غير العرب، يشتوجهون إلى الله -صلاةً ودعاءً- بلغة ليست لغتهم، ولا هم يفهمونها. أيضًا لا يزالون يعتقدون أن العربية هي اللغة الوحيدة للصلاة، كما لو أن الله لن يقبل صلاتنا، وسيرفض أن يستمع لدعائنا، إنْ نحن دعَوناه بلغاتنا ولهجاتنا الأصلية. لقد ترسخت لديَّ تدريجيًّا -كما لدى كثيرين/ات آخرين-، فكرة أنه لمَّا كان الله قد خلقني أمازيغيًّا، فلا بد أن أؤدي صلاتي بتلك اللغة التي تعلَّمتُها وتربَّيتُ عليها.
تَطرح هذه الفكرة إشكالية العلاقة بين الدين والتعدد الثقافي واللغوي، وأيضًا تَطرح -بطريقة غير مباشرة- إشكالية قدرة الفكر الديني الإسلامي على ترشيد الهويات الثقافية. لا شك في أن إشكالية لغة العبادة في الإسلام مسألة شائكة، تكاد تكون جزءًا مما لا يجوز التفكير فيه، وذلك لأنها تُسائل أيضًا فكرة المطابقة بين الدين الإسلامي واللغة العربية، والتي قد تفسر بروز إيديولوجيا دينية أصولية تكرس نزعة نحو "الأمازيغوفوبيا"، التي بدأت بعض معالمها في المغرب، عندما ثارت ثائرة بعض الأوساط السلفية، على قرار بعض المغاربة منح أبنائهم أسماءً أمازيغية، معتبرة ذلك انتكاسًا نحو "الوثنية الجاهلية"، وزرعًا لبذور الفتنة الطائفية.
هل يمكن طرح فكرة الفصل بين الدين واللغة؟ وهل يمكن اعتبار العربية -كما الأمازيغية وكل لغات العالم- مجرد حامل لغوي ثقافي للإيمان الإسلامي؟ لا شك أن عربية القرآن لا تتنافى مع عالمية الإسلام، ما دام أن الله يخاطب الإنسانية جمعاء: "يا بني آدم"، و"يا أيها الناس". في نفس الوقت، يؤكد القرآن أنه لا معنى للخطاب الإلهي إلا عندما يتجسد عبر اللغة والثقافة: {وما أرسَلْنا من رسول إلا بلِسان قومِه لِيُبيِّن لهم}. فالبشر لا يستوعبون كلام الله إلا من خلال لغاتهم. لذا، يبدو لي معقولًا أن تجري ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الوطنية، لكي يفهم المسلمون مقاصده وما ينتظره الله منهم.
ما موقف الفقه الإسلامي السُّني من أطروحة كهذه؟ ثمة إجماع على عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية للتعبد داخل الصلاة أو خارجها، وعلى أن من صلى بالقرآن مترجَمًا لا تصح صلاته، وعلى أن قراءة القرآن بغير العربية لا ثواب عليها. بل إن من الفقهاء من ذهب إلى حد اعتبار أن خطبة الجمعة -بصفتها عبادة- لا تجوز إلا بالعربية. يبدو لي هذا الإجماع متجاوزًا دينيًّا ومعرفيًّا وأخلاقيًّا، وذلك لأنه مبني على مُسلَّمة قابلة للنقاش، وهي أن قراءة القرآن بغير العربية تنزع منه إعجازه وصِفته، فيصبح تفسيرًا. وهذه المُسلَّمة ليست إلا فهمًا محدودًا لمعنى الإعجاز الذي قد لا يتجسد في اللغة، بل في المعاني أو الأثر الروحي الذي تُحْدثه معاني القرآن.
يؤكد القرآن أنه نزل بلسان العرب، وأيضًا يؤكد على عدم أعجميته: {ولو جعلناه قرآنًا أعجميًّا لقالوا لولا فُصِّلَت آياتُه أَأَعْجَميٌّ وعربيٌّ}. يستنكر القرآن فكرة أن يُنزل الله كتابًا على قوم بغير لغتهم؛ ما يعني أنه لا يمكن أن نطلب من أي مسلم لا يجيد العربية أن يقرأ القرآن بغير لغته، لأن في ذلك مساسًا بحقه في تلقي خطاب إلهي واضح. وما دام أن القرآن كلام الله الموجه إلى البشرية جمعاء، فإنه لا يعقل أن يظل حبيس لغة واحدة تحكم عليه بالمحدودية، بل يجب ترجمته إلى اللغات الوطنية، أو -ولِمَ لا؟- إلى اللهجات المحلية. هكذا، تصبح كل اللغات قادرة على أن تكون حاملة لقدسية الخطاب الإلهي.
أعتقد أن قبول المؤسسات الدينية فكرة التعبد بالقرآن مترجَمًا، هو مشروع بالغ الإيجابية، لأنه سيسمح للإسلام -من خلال توطينه في لغات وثقافات مختلفة- ببناء قراءات وتأويلات جديدة، تأخذ بعين الاعتبار السياقات البشرية. ثم إنَّ ربط الإسلام بالتعددية اللغوية، كفيل بإنتاج تأويلات مفتوحة، تتجاوز القراءات الأصولية التي لا تزال يا للأسف حاضرة في مجتمعاتنا. وقد تَبيَّن من بعض ردود الفعل الأخيرة على ترجمة القرآن إلى الأمازيغية بالجزائر، أنها ردود رافضة مستهجنة، معتبرة أن الأمر يتعلق بمؤامرة تستهدف الإسلام، أو أن قبول هذه الترجمة يكاد يكون "ارتدادًا عن الدين". لكني أقول -كما يقول جلال الدين الرومي-: ليس المهم اللغة التي تتحدث بها إلى الله، فكل اللغات حاملة للقرآن وللحضور الإلهي، بل المهم أن نتقن "لغة القلوب"، وننخرط في بناء فهم روحي جديد للإسلام.
أهدي هذا المقال إلى روح أستاذي وأخي وصديقي "حسن بنعقية"، الذي رحل عنا مبكرًا. عاش مثقفًا ملتزمًا متصوفًا في محراب عشق الأمازيغية، لكي يعيد إلى ذاكرة الأجداد ولغتهم وثقافتهم روحَها وألَقَها. فلترقد روحك بسلام في ملكوت الرب.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.