كان التعليم العربي قبل جائحة كوفيد 19 مصابًا بالعديد من الأوبئة، التي جعلت الأجيال العربية تعاني فقدان كثير من مهارات الحياة في القرن الحادي والعشرين، التي أكدها تقرير اليونسكو "التعليم ذلك الكنز المكنون"، الذي صدر في بداية الألفية الجديدة، وخَطَّ أربع غايات للتعلم: التعلم للحياة، والتعلم لنعيش معًا، والتعلم لنعمل، والتعلم لنتعايش مع الآخرين. لقد افتقدت كثير من مناهج أنظمة التعليم هذه الغايات، ولم تقاوم وباء المعرفة وسلطة الكتاب المدرسي والاختبارات التي لا تقيس تقدم المتعلم في تحقيق تلك الغايات. ولذا، كانت نتائج الدول العربية في المسابقات العالمية دائمًا دون المتوسط العالمي، حيث تشير نتائج برنامج تقييم الطلاب الدولي (PISA) لعام 2019، إلى أن طلبة خمس دول عربية هي لبنان والأردن والمغرب وقطر والمملكة العربية السعودية، حلُّوا في الثلث الأسفل من بين 79 دولة مشاركة، وظهر أن الطلبة يعوزهم التفكير الإبداعي والقراءة والإيمان بالذات وضرورة العمل بجدية. أما المعلمون، فيفتقدون الدعم والتدريب، والمناهج تفتقد الحداثة والربط بالقضايا المعاصرة واليومية، وتعددية مصادر المعرفة.
ورغم ذلك الواقع، أجرت الدول العربية تحسينات محدودة في أنظمتها التعليمية، ولم يرتفع الإنفاق التعليمي إلا في الرواتب والأجور والمصاريف التشغيلية. وجاء كوفيد 19 ليضيف وباء صحيًّا آخر إلى جانب أوبئة متعددة سابقة تعانيها أنظمة التعليم، وكان التحول الرقمي بأي شكل من الأشكال ضرورة لاستمرارية أنظمة التعليم. ولكن، هل يمكن أن يكون هذا التحول لَقاحًا مستدامًا، يمكن من خلاله حل الأوبئة الأخرى التي تعانيها أنظمة التعليم؟ لقد ظهر خلال عام واحد من عمر هذه الجائحة أن أنظمة التعليم العربية بوغتت بأزمة تعليمية كبيرة، صاحَبَتها أزمات اجتماعية واقتصادية، وفي بعض الأحيان سياسية، وكان الاستمرار في التعلم تحديًا كبيرًا لكثير من الدول العربية النفطية وغير النفطية. فالمنصات الرقمية ومصادر التعلم الرقمية لم تكن تحظى باهتمام كبير قبل الجائحة، حيث يجري الانتقال إليها بيسر وسهولة حين أُغلقت المدارس.
ومع ذلك، مضت الدول مع الخيار المتاح لاستمرارية التعليم رغم تحدياته وعقباته، والمُتابع يَخرج من هذا العام بعدة ملاحظات كانت ولا تزال مؤثرة كثيرًا في التعليم والموقف من إصلاحه.
أولاً: ظهر أن كثير من أنظمة التعليم نقلت التعليم التقليدي السائد إلى المنصات الإلكترونية، وبدلًا من أن يقدِّم المعلم الحصة في الغرفة الصفية، أصبح يقدمها عبر منصة إلكترونية، حيث يطالبه الجميع بتقديم شرح واف لمكونات الموضوع من خلال حصة منقولة لهم صوتًا وصورة.
ثانيًا: ظهر أن الفوارق الاجتماعية في الدخل أكثر اتساعًا مما نتخيل حتى في بلدان نفطية، حيث تعالت أصوات فئات من المجتمعات تشكو عجزها عن توفير الأجهزة والحواسيب لأبنائها أو تحمُّل كلفة خدمة الإنترنت؛ ما دفع ببعض الحكومات إلى مطالبة المزوِّدين بتخفيض كلفة تنزيل الملفات خلال هذه الفترة.
ثالثًا: كشفت الجائحة عن ضعف في إعداد المعلمين وتدريبهم على التعامل مع المنصات والتحولات الرقمية. ولتفادي ذلك، أُطلقت برامج ودورات تدريبية موسَّعة، بعضها قامت بها أنظمة التعليم نفسها، وبعضها الآخر قادتها اليونسكو والمؤسسات التربوية الإقليمية.
رابعًا: -وهذا هو العامل الأهم– لم تخصِّص الحكومات نفقات إضافية لمساعدة مؤسسات التعليم والمجتمع والمعلمين في مواجهة متطلبات هذه المرحلة، وهو ما سوف يضعف من التعافي من آثار هذه الأزمة التعليمية الطويلة في عملية التعلم، التي شهدت فاقِدًا (هدْرًا) كبيرًا أدركته كثير من دول العالم، وبدأت منذ فترة مبكرة في التحضير لمواجهته.
كان التعليم العربي يشهد دائمًا فاقِدًا تعليميًّا، يتسع كلما اتسعت وتسارعت تحولات العالم وتطوراته. وجائحة كوفيد 19 ضاعفت من هذا الفاقد التعليمي، خاصة لدى طلبة المرحلة الابتدائية الذين هم في حاجة إلى تطوير مهارات الكتابة والقراءة، وهو ما سيؤثر بشكل حاد في تقدمهم التعليمي في السنوات القادمة، في ظل عدم ظهور أية مؤشرات تدل على التحرك لمواجهة ذلك، في حين وجدنا مثلًا دولًا كالمملكة المتحدة، تعطي ذلك أهمية كبيرة لا تقل عن دعمها لتعزيز مقاومة النظام الصحي.
ففي إنكلترا حيث كانت هناك مخاوف من اتساع حجم التعلم المفقود؛ ما سوف يقود إلى توسيع فجوة التحصيل بين أفقر الطلبة وأقرانهم، خُصِّص مبلغ 350 مليون جنيه إسترليني من صندوق كوفيد 19 لمعالجة ذلك. ولتحقيق تلك الغاية خَصَّصت الحكومة الإسكتلندي 100 مليون جنيه إسترليني للعامَين القادمَين. أما ويلز، فخصصت 29 مليون جنيه إسترليني للتغلب على الفاقد التعليمي وتعزيز القراءة والكتابة والكفاءة الرقمية؛ ما يعكس التزامًا كبيرًا نحو التعليم حتى في ظل الأزمات، وهو ما يجب أن تتنبه له أنظمة التعليم في المنطقة، لأن الآثار عميقة، والمُضيَّ بكل هذه الآثار بدون معالجة، يعني تزايد حدة صعوبات التعلم لدى فئات متعددة من الطلبة في المرحلة المقبلة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.