أمام الجرائم الهمجية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، والتي يستخدم فيها الجيش الإسرائيلي أحدث الطائرات العسكرية، والصواريخ، وأكثر القنابل فتكًا وتدميرًا - هناك يصبح كل شيء مشروعًا ومتاحًا، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، وجنون الانتقام، وتصاعُد مشاعر الخوف على مستقبل المشروع الصهيوني. مع أنها ليست المرة الأولى التي يدمر فيها الاحتلال غزة، أو يقتل فيها الفلسطينيين -كما حدث منذ 75 سنة في كل مدن فلسطين-، فإن الأمر هذه المرة كان أكثر وحشية وتأييدًا ودعمًا من قبل زعماء الدول الغربية، حيث توضحت العلاقة الوجودية بينها وبين المشروع الصهيوني.
باختصار، لقد ازداد الصراع حدّة، وازدادت إمكانية اتساعه مع تأجيج مشاعر العداء بين الشعوب، وخاصة مع فضيحة الانحياز السياسي والإعلامي الغربي غير المحدود، والذي يقوم بتزييف مُمَنهج للصراع على ثلاثة مستويات: بدءًا من المماهاة بين كل أعمال المقاومة الفلسطينية والإرهاب، ومرورًا بالمماهاة بين صور القتلى من الإسرائيليين وصورة الهولوكوست في المخيال الغربي، وانتهاءً بالمماهاة بين العداء للساميَّة والعداء لإسرائيل. كل ذلك التزييف يتسق وحالة استغلال عقدة الذنب في النفسية الغربية، التي تحولّت فجأة إلى تأييد "بُطوليٍّ" لكل ما تقوم به إسرائيل باعتبارها ضحية للعرب والمسلمين! وهو ما جعل كثيرًا من الغربيين عاجزين عن رؤية جرائم القتل والإبادة، التي تقترفها الآلة العسكرية الصهيونية. فالغرب الذي اقترف أسوأ الجرائم في حق اليهود أصبح اليوم أكبر مُناصر للصهيونية، ويمدها بأسلحة الدمار، ويدافع عن جرائمها، ويغض الطرف عن أسلحتها النووية.
إن قصف المدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات، وليس آخرها المستشفى المعمداني في غزة الذي قُتل فيه مئات الفلسطينيين، يُعدُّ مثالًا للسقوط الأخلاقي، ولتزييف الحقائق الذي ينتهجه الاحتلال وماكيناته الإعلامية في الدول الغربية.
إلى جانب ما يشكله الانحياز الغربي إلى الدولة الصهيونية من مشكلة أخلاقية في الصميم، فإنه يستدعي مراجعة مفاهيم أساسية يُفترض فيها أنها جوهرية في الثقافة الغربية، كما هو الحال مع مفهوم الحرية الذي يتسع لِيَقبل حرق القرآن ومسَّ الرموز الدينية، لكنه يقبل أيضًا أن تُختطف حرية شعب كامل يسعى إلى الانعتاق من الظلم والاحتلال! ومفارقة المناداة بحرية الرأي والتعبير، وقمع المظاهرات والمظاهر المؤيدة للقضية الفلسطينية!
لا شك أن الأصولية الصهيونية قد استغلت فكرة الوعد الإلهي في الأسفار اليهودية، لتبرير احتلالها وجعله مقبولًا دينيًّا، لكن النهج الصهيوني في استغلال النصوص المقدسة لا يمثل سوى تسويغ نفعي، وانتقاء سطحي للنصوص. فهناك نصوص يهودية كثيرة تُشكل اتجاهًا إنسانيًّا أخلاقيًّا يُدين العنف والكذب والغش: "تُهْلِكُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْكَذِبِ. رَجُلُ الدِّمَاءِ وَالْغِشِّ يَكْرَهُهُ الرَّبُّ" (مزمور 5: 6)، ويرفض خطاب الكراهية والعنصرية: "لَا تَكْرَهْ أَدُومِيًّا لأَنَّهُ أَخُوكَ. لَا تَكْرَهْ مِصْرِيًّا لأَنَّكَ كُنْتَ نَزِيلًا فِي أَرْضِهِ" (تثنية 23: 7).
فالأصل في العلاقة بين الناس -وفق النظرة الدينية العامة- هو السلم والعدل، وليس الحرب والعدوان. فالحرب هي حالة طارئة تتصل بإنهاء الظلم والعدوان، ولعل الموقف القرآني يجسد ذلك بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. ووفق هذا الأساس، عاش المسلمون واليهود والمسيحيون جنبًا إلى جنب في العراق وسوريا ومصر وفلسطين. ويكفي أن ننظر إلى اليهود السامريين في نابلس، الذين عاشوا قرونًا طويلة مع الفلسطينيين باحترام وانسجام. ولا ننسى أيضًا المواقف المنصفة لليهود من طائفة "ناطوري كارتا"، الذين يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، ويرون في الصهيونية أكبر خطر على الديانة اليهودية.
الحديث في عدوان الاحتلال باعتباره دفاعًا عن النفس ليس سوى تزييف مفاهيمي، تفرضه الماكينات الإعلامية المهيمنة في الدول الرأسمالية الكبرى، التي تمتزج فيها المصالح السياسية بالمصالح الاقتصادية للأحزاب والشركات وأرباب رؤوس الأموال. إن تحويل قطاع غزة إلى أكبر معتقل في العالم يجمع 2.2 مليونَيْ إنسان، في منطقة مساحتها 360 كم مربع، ثم قطع الماء والطعام والدواء والكهرباء عنهم، إنما يمثل أنموذجًا صارخًا من همجية الاحتلال وجرائمه المتواصلة.
إن حق الشعوب في أوطانها لا يقوم على اسم الدين أو المعتقد الذي يؤمنون به. فالشعب الفلسطيني هو الامتداد الطبيعي للشعوب القديمة، التي عاشت في فلسطين على اختلاف معتقداتها، تمامًا كما الشعب المصري أو العراقي أو السوري. وخلافًا للدعاية الصهيونية التي تُظهر الإسلام بوصفه وافدًا جديدًا على فلسطين، فإن التاريخ يعلمنا أن الكنعانيين واليبوسيين كانوا قبل العبرانيين، وأنَّ تغير معتقدات الفلسطينيين من الديانة اليهودية إلى المسيحية، ومن بعدها إلى الإسلام، كل ذلك يشكل جزءًا من التراث الديني للشعب الفلسطيني. أيضًا يعلمنا التاريخ أن نزع بشرية أي شعب أو جماعة هو مقدمة لتبرير إبادتها. ولذلك، فإن وصف النازيين لليهود في أوروبا بأنهم فئران، لا يقل شناعة عن وصف المسؤولين الإسرائيليين للفلسطينيين بأنهم حيوانات! فالعقل النازي هو ذاته في كل الأحوال، والجريمة هي جريمة مهما كان تبريرها.
لا يوجد دين يؤيد قتل الأبرياء والمدنيين، وكل فعل يخالف ذلك يخرج عن نطاق الدين وتعاليمه، لكنه من غير المعقول مقارنة أخطاء المظلومين العارضة بخطيئة المستعمرين المستدامة. ونحن نجد في جميع الحالات النضالية ضد النظم الاستعمارية في التاريخ، أن أخلاق المقاومين المدافعين عن أوطانهم كانت دومًا تستعلي على أخلاق المحتلين الغاصبين. فالمقاوم لا تحركه غريزة الانتقام والغدر، وإنما تحركه فضيلة العدالة واسترداد الكرامة والحقوق.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.