هويات الشعوب مركبة بطبيعتها. فلا توجد هوية صافية أو أحادية، إلا إن كان ذلك قرارًا سياسيًّا مفتعَلًا، يفضّل أحدَ العناصر الاجتماعية ليجعل منه العنصر الفذ، الذي وسم “شخصية” الأمة وصاغها وحافظ عليها. لقد عرف المسلمون في بواكير تاريخهم ما سمي بالحركة الشعوبية، وهي حركة قومية بلغة اليوم، ناجمة عن التوسع السريع الذي عرفته الإمبراطوريات الحاكمة آنذاك، والاختلاط بالشعوب المفتوحة، التي كانت بالفعل غالبية سكان المنطقة. فمعظمهم لم يكونوا عربًا ولا مسلمين.
لقد كانت عمليتا التعريب والأسلمة تدريجيَّتَين وبطيئتين، والشعوبية أتت ردَّ فعلٍ على نزعة استعلائية، ترى تفوُّق العرب إزاء الموالي والشعوب المغلوبة. كانت هذه النزعة أحد أسباب انهيار الدولة الأموية، التي فشلت في تسيير الوضع الجديد. والثورة العباسية -في أحد أبعادها- هي “انتقام” التنوّع، الذي كان يتفاعل داخل أراضي الإمبراطورية المترامية الأطراف. هذه هي طبيعة الإمبراطوريات -من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية العثمانية حتى الإمبراطورية الأميركية-، مزيج من الأعراق والشعوب، تتعارف وتتعاون أوقات السلم، وتتصارع وتتقاتل أوقات الحرب.
في العصر الحديث، ظهرت الحركات القومية بأطيافها المختلفة. منها المتطرف، ومنها المعتدل، ومنها ما يبني كيانه على أساس شرعية تاريخية تحررية أو انقلابية. الدولة القومية -وأحيانًا تسمى الوطنية- تحتاج إلى “شخصية” قومية، يُنظر إليها باعتبارها العنصر المهيمن أو الأغلبي، الذي يعطي الوطن وجهه المميَّز. وكثيرًا ما ينجرُّ عن هذا السلوك اضطهاد الجماعات الأخرى، التي قد تكون أقليات أو حتى أغلبيات مهمَّشة.
بلدان المغرب “العربي” ليست استثناءً من هذه الصيرورة التاريخية. فتعريبها النسبي والتدريجي لم يَجْرِ عبر الفتح الإسلامي. وهنا، كلمة “فتح” ليست محايدة، بل تتضمن موقفًا من التاريخ. عَرف هذا التعريب زخمًا قويًّا أدى إلى تغيير ديموغرافي وثقافي بارز، مع غزوة “تغريبة بني هلال” وانتقالهم من نجد إلى مصر، ومن ثمة إلى بقية بلدان الشمال الإفريقي بداية من القرن الثاني عشر. عنصر آخر ساهم في تعريب المنطقة، هو الهجرة الكبيرة لملايين الأشخاص من الأندلس، على إثر ما عُرف بحروب الاسترداد بداية من القرن الخامس عشر. وإن كانت الأفواج الأخيرة من هذه الهجرة غير ناطقة بالعربية، فكانت تتحدث بالقشتالية. وقد أدت الهجرة الكبيرة ليهود الأندلس إلى تعريب قسم هام من يهود المغرب، الذين كانوا في معظمهم من الأمازيغ.
اللغة مُعطًى ثقافي، وليست جنسًا أو عنصرًا. فكما كانت هناك قبائل أمازيغية تعرَّبت وظلت محتفظة بعناصر ثقافية أمازيغية، كذلك نجد قبائل عربية تأمْزَغَت واحتفظت ببعض عاداتها السابقة. بل يكفي أن ينتقل فرد أو مجموعة إلى منطقة ناطقة بالعربية أو الأمازيغية، ليتعلم الوافد لغة وسطه الجديد، وتدريجيًّا مع الجيل الثاني تصبح اللغة المحلية هي اللغة الأم.
حاول الاستعمار الفرنسي أن يلعب ورقة “فرّق تسد”، معطيًا امتيازات لفريق من الشعب على حساب فريق آخر، لكسب الولاءات وإضعاف الجبهة الداخلية: فكان مثلا قانون تجنيس اليهود في الجزائر سنة 1870، و”الظهير البربري” في المغرب سنة 1930 ولكن، تدخُّل الاستعمار في هذا الشأن، لا يعني أن التنوع اللغوي أو الديني في المنطقة مجرد مؤامرة، أو يمكن إلغاؤه أو اختراعه بقرار خارجي. للأسف! لا تزال بعض الأطراف تنظر إلى كل من يتبنى نظرات مختلفة في هذا الصدد، على اعتبار أنه عميل للاستعمار أو صاحب مشروع انفصالي. هناك انقسام حقيقي في النخب السياسية يحُول دون الحوار والتفاعل الإيجابي بينها، الذي يبدأ بالاعتراف بهذا الغنى، والقبول للطبيعة المركَّبة للهوية الوطنية.
هناك عنصر آخر هو اللغة الفرنسية. فهناك قطاع لا بأس به في الجزائر مثلًا -خاصة في وسطها وغربها-، لا يزال يتحدث بالفرنسية في الحياة اليومية، أو يختارها لغة للإبداع الأدبي. ثم إن اللهجات المغاربية تشبعت بالمفردات الفرنسية. هناك من ينظر إلى المسألة باعتبارها إرثًا استعماريًّا، وهي كذلك. فلولا 132 سنة من الاستعمار الفرنسي للجزائر، لما كانت هذه الظاهرة. وهناك من يعتبرها واقعًا اجتماعيًّا ثقافيًّا لا يمكن إنكاره، خاصة بعد مرور ستة عقود عن الاستقلال. وهذا لا يشكّك في وطنية أحد أو إيمانه. هي خيارات متاحة ما لم تتحول إلى أيديولوجية هيمنة وإقصاء. الواقع الاجتماعي والثقافي لا يمكن اختزاله بالقوة أو بقرار استبدادي. فلنتعلم أن يَقبل بعضنا بعضًا، وأن نتحاور مباشرة مع كل أبناء الوطن، حتى نتخلَّص من أحكام ظنَنَّاها نهائية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.