بدأ ظهور مفهوم الدولة الوطنية في المنطقة العربية، في حَمْأَة مواجهة الاستعمار الغربي الذي كان يَجثم على المنطقة. ولذلك، إذا ما أخذنا مفهوم الدولة الوطنية، باعتبارها دولة مدنية تقوم على أساس التكوين السياسي، الذي يضم العناصر الداخلية للوطن بمختلف أطيافه، دون تَبنِّي رؤية عقائدية من خارج الحدود، سواءٌ أَقَوميَّةً كانت أم دينية – فإن الدول التي قامت في منطقتنا، لم تكن دولًا وطنية خالصة المنشأ بالمعنى السياسي، بل كانت مدفوعة بوطأة الفلسفات القادمة من بُؤَر الاستعمار كالليبرالية والعلمانية، ومشُوبةً بتبنِّي الإيديولوجيات المضادة لذلك المعنى: كالقومية العربية، والإسلام السياسي، والطائفية، والعسكرة.
مع هذا الخليط الذي صُرعَت به المنطقة، دون أن تتحقق لها الدولة الوطنية المرجُوَّة، استمر مسلسل التخبط في التداول السياسي للأنظمة، والذي انتهى بثورات عمياء، لم تقتصر على عدم ملاحظتها آنذاك الصراعَ الدولي من حولها فحسْب، وإنما أدى الأمر بها إلى تدمير بعض أوطانها. لكن، هل تلاشت فرصة قيام دولة وطنية في المنطقة العربية؟
بنظري، ربما العكس هو ما ينتظر المنطقة، وهو انتشار “العقيدة الوطنية”. والمشير إلى ذلك: السقوط المريع للإيديولوجيات الكبرى في العالم، التي سادت خلال القرن العشرين، وبدْءُ تفكُّك الأحلاف الإقليمية كالاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي. وأيضًا بروز النزعة المنغلقة للدولة دون اعتبارات إنسانية خلال جائحة كوفيد‑19، مثل: تصريح أميركا باحتكار “مَصْل” علاج الفيروس، والتسابق المحموم لبعض الدول لاكتشاف لقاح لعلاجه، في محاوَلةٍ منها لاستغلاله سياسيًّا واقتصاديًّا على المستوى الوطني. وذلك إضافة إلى عدم وجود دليل على تَبنِّي أية دولة كبرى لإيديولوجيا تُبشِّر بها، في حال غضَضْنا النظر عن إيران وتركيا، اللَّتَين تستخدمان الإيديولوجيا الدينية -وشيئًا من القومية- لغرض وطني، أكثر منه لنظرية شمولية.
إنْ لاحظْنا ذلك كله، فسنرى أن المنطقة متجهة إلى تَبنِّي “العقيدة الوطنية”. والشاهد على ذلك تَخلِّي الدول العربية عن عقائديتها القديمة لمصلحة الوطنية. فمثلًا: مصر تحولت عن القومية، والسعودية عن السلفية، والسودان -عبْر ثورته- عن الإسلام السياسي، والعراق ولبنان ينتفضان لأجل دولة لا محلَّ فيها للمحاصصة الطائفية، التي تُعبّر عن أجندة خارجية أكثر منها داخلية. وهناك عقْد “اتفاقيات سلام” ثنائية مع إسرائيل.
لا يزال العديد من النخب الفكرية في المنطقة يتشبث بالنظريات الشمولية؛ كالقومية العربية والإسلام السياسي، بيْدَ أن الزمن قد تجاوزهما، وهو لا يرجع إلى الوراء. ثم إن التحولات القادمة باتجاه “العقيدة الوطنية” -بكونها مرشَّحًا وحيدًا حتى الآن لتَسلُّم سيادة المنطقة-؛ تستلزم استشراف التغيرات التي ستحصل في الدولة. من ذلك:
– إعلاء شأن البرجماتية والهُوية الوطنية، في مقابل التخفف كثيرًا من المبادئ الشمولية، التي تتبناها عادة الإيديولوجيات الكبرى.
– إعادة تأويل المقولات القومية والدينية، وربما إعادة صياغتها، بما يتوافق ويخدم “العقيدة الوطنية”. والجدير بالذكر أن التأويل هو الأداة المعرفية الأولى للسلطة السياسية.
– دخول الدولة في تناقض دراماتيكي مع العولمة، حيث تميل الدولة الوطنية إلى وضع حواجز ضد الانصهار العَولمي. وهذه المعركة بالذات ستُصرُّ فيها الدولة على الانتصار، لأن غلبة العولمة تعني تهديدًا سافرًا للوطنية. ولكن، على أقل تقدير لم يَحِنْ بَعدُ موعد الحسم النهائي للمعركة.
– للتخفيف من ضغط العولمة، ستركّز الدولة الوطنية على تحقيق قدر لا بأس به من الاكتفاء الذاتي في السلع الأساسية؛ لا سيما الغذاء والدواء ومصادر الطاقة.
– ستُعزز “العقيدة الوطنية” استبداد الدولة، ليس على أساس القبضة الأمنية، وإنما على أساس إعادة التأهيل الذهني لأفراد المجتمع، بمعنى أن عموم الناس سينساقون بأنفسهم مع الاستبداد، باعتبار ذلك ضرورة مشروعة تقوم بها الدولة، للدفاع عن حمى المُواطَنة.
– شيوع ثقافة التسامح في الدولة، في الجوانب الدينية والعرقية واللغوية بين المواطنين/ات. لكن في المقابل، لن يُتقبَّل الوافد المنافِس بسهولة؛ ما يعزز العنصرية ضد الأجانب.
– تطبيق سياسة توطين الوظائف بصرامة. ولن يكون الدافع بالمقام الأول حلَّ مشكلةِ البطالة في الجانب الاقتصادي، ولا منْعَ الاضطرابِ الأمني داخل الدولة؛ وإنما على أساس أن البُنْية الذهنية لمشروع الدولة، يقوم على “العقيدة الوطنية” التي سينساق خلفها المواطنون/ات.
– جزء من تطبيق سياسة التوطين، هو لجوء الدولة إلى تجنيس الأجانب الذين لا تستغني عنهم، مع عرقلة تسريب العملة إلى وطنهم الأم. وهذا بدوره يتطلب من الدولة وضع برامج تأهيلية للمواطنين/ات، لِتَقبُّل هذا التجنيس.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.