"أُقسم بشرفي" قالها مُمسكًا بشاربه. كان ذلك كافيًا لعقد اتفاق بين رجُلَين.
"شرَفٌ، تضحية، وفاء" رفع الضابط هذه الراية الشهيرة، ودار التصفيقُ بين الحشود، وسط شعور بالفخر والعزّة والانتماء.
"صُوني شرفك يا ابنتي" قالتها الأم لابنتها الشابة، ففهمت الابنة أن ذاك الشرف مرتبط بعفّتها وجسدها في العالم الذكوريّ، فأجابت: "طبعًا، الشرف غالٍ".
"جريمة شرف" كان عنوان الصحيفة اليوميّة في العريض. وقبل قراءة المقال، فهِمَ القرّاء أن الجريمة طالت امرأة. فشعر بعضهم بالتفهّم تأييدًا للقاتل المجروح، وشعر بعضهم الآخر بالألم أسفًا على الضحيّة. لام بعضهم ثقافة القتل، ولام آخرون تصرّف الضحية أو لباسها. ثم أكمل الجميع نهارهم بشكل طبيعيّ.
كيف للشرف أن يجد نفسه مرتبطًا بجريمة؟ وكيف التقت كلمتان متضاربتان في مصطلح واحد، أصبح جزءًا من ثقافة أو نقاش "مع وضدّ"؟ وكيف نجح بعضهم في تقزيم الشرف إلى حدّ ربطه بالعلاقات العاطفيّة لدى النساء؟
ما الشرف أصلًا؟ وهل له مفهوم مرتبط بالنوع الجندريّ؟ وهل شرف الرجل مختلف عن شرف المرأة، أم أنه متأثّر مباشرة بنتائج شرفها؟
تتحدث المعاجم والتعريفات العلميّة عن مفهوم الشرف باعتباره: "صفة تُقيِّم مستوى الفرد في المجتمع، ومدى ثقة الناس به بِناءً على أفعاله وتصرّفاته". الشرف هو أيضًا التزامُ الأقوال، والتزام الوعود، واحترام الآخَر، والصدق.
ما من تعريف يربط الشرف بالحب، أو الحميميّة، أو النساء، أو الرجال. الشرف صفة حميدة نبيلة وصادقة، لا جندر لها. كيف ارتبطت هذه الصفة بالجريمة، التي تطُول النساء حصرًا، ويبرّرها بعض القوانين والتشريعات، والكثير من الأفراد في بعض الثقافات؟
لسبب ما، أصبح وَصْفُ رجلٍ بأنّه شريف؛ يعني أنه صادق، لا يسرق، ويستحق الاحترام. ووَصْفُ امرأة بأنّها شريفة؛ يعني أنها لم تُقِم علاقات عاطفيّة معيّنة، وأنّها عفيفة، وليست مصدر عارٍ لعائلتها. كيف انزلقنا في هذا الحضيض؟ وكيف تقبّلنا فكرة جريمة الشرف، وأظهرنا تسامحًا مع القاتل في بعض الأحيان؟
لننتقل إلى تعريف الجريمة. ففي القانون هي كل انحراف عن المعايير الجَمعية، التي تتصف بقدر هائل من الجبرية والنوعية والكلية. ومعنى هذا أنه لا يمكن أن تكون جريمة إلا إذا توافرت فيها القِيمة التي تُقدِّرها الجماعة وتحترمها. وفي هذا السياق، اعتبرَت جماعاتٌ في مناطق جغرافيّة معيّنة وثقافات معيّنة، أنَّ قتل النساء في العائلة لسبب عاطفي أو جنسيّ لا يتوافق مع معايير الجبرية والنوعية والكليّة للبيئة، جريمةٌ حميدة، تغسل عار العائلة. لذا، تتنصّل العائلة أو القبيلة من الفعل المشين، وتقتل المُسبِّبة (الأنثى).
كم من جريمة طالت نساء أحببن رجالًا من ملّة أخرى، أو بسبب الشكّ في عفَّتهنّ، ليتضح فيما بَعْد في العديد من الحالات أن العفّة لم تُمَسّ.
لقد أصبح شرف الرجال محمولًا على أكتاف نسائهنّ، ومرتبطًا بعاطفتهنّ وعشقهنّ وخياراتهنّ. وأصبح قتلهنّ في حال خرجن عن معايير القبيلة أو العائلة، دواءَ غسيل مزيل لبقعة العار، يَغسل -بنتيجة مبهرة- شرفًا لطّخَتْهُ امرأة.
ألبَسَ بعضُهم قتل النساء ثوب الشرف، وتواطأت معهم القوانين والعادات والأعراف والعنف الثقافي. فسُمح بتهنئة المُزْهِق لروح بشريّة، أو كُوفِئ بإصدار حُكْمٍ مخفّف عليه.
يكفي أن يقع الشك في امرأة، أو أن ينقل أحدهم خبرًا أو صورة لها، لكي تتعرض للقتل. فتحمي القاتلَ أمُّه أو زوجته أو عائلته، وتَقْبل غسل عار القاتل، لِكونها في أحيانٍ كثيرة حاميةً للعنف الثقافي الذي يطُولها أوّلًا.
ولِكون العنف الثقافيّ هو الأقوى، والأكثر ترسُّخًا، والأصعب في المواجهة؛ فهو يُغذِّي كُلًّا من العنفِ الهيكلي الذي نجده في القوانين، والعنفِ المباشر الذي يُسبِّبه مُرتكِب فعل الجريمة. إنَّ العنف الثقافيّ يجعل من الضحيّة مُدافعة عن الأعراف والعادات القاتلة، ويدفع إلى اقتران كلمتَيْن متناقضتَيْن، وجعْلِهما تسمية مركَّبَة مقبولة فكريًّا: "جريمة شرف".
العنف الثقافيّ هو الأعراف والعادات والتقاليد اللاإنسانيّة، التي تحتفظ بها الجماعات خوفًا على انهيار هويّتها الثقافيّة والجغرافية والإثنيّة.
وَحْدها الجماعاتُ، التي تُفرّق بين التقاليد والعادات البنّاءة وغير البنّاءة، تستمر عبر العصور. وحدها الجماعات، التي تُغذّي قِيَمها الحميدة، وتتخلّص من قيمها القاتلة، تستمر وتبقى، لأن القيم والعادات ليست ثوابت مُنزلة. هي ديناميكيّة، تتعدّل مع حاجات الجماعة.
وحدها الجماعات، التي تفهم أن جرائم الانتقام والقتل على أساس النوع أو اللون أو الإثنية أو الدين أو أي مكوّن من مكونات الهوية، والتي هي أعمالٌ لاإنسانية وإجراميّة وعنفيّة - تستمر وتزدهر وتتقدّم، وتبقى لتستمرّ.
تَخلع الجريمة صفة الشرف عن المرتكب. وما من قاتل غسل شرفًا، وما من شريف قَتَل، ولا شرف في الجريمة.
"جريمة شرف" مصطلح بائس، حان وقت دفنه، لاسترداد مفهوم الشرف الحقيقي.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.