"هل أنت أنت؟". كان هذا السؤال عنوان جلسة حوارية، شاركتُ فيها حديثًا عبْر تطبيق "كلوب هاوس" الجديد نسبيًّا. أخذ الحوار مناحِيَ متعددة في التأمل الفلسفي، مثل عرض الأفكار واستحضار الخبرات الشخصية. التفاعل الملحوظ خلال هذه الجلسة وغيرها، والأسئلة الكثيرة التي ترِدُني بصورة مستمرة عن مفهوم الهوية وأبعادها، أدلَّة على حيوية الموضوع وصعوبته في آن واحد.
يكاد يكون سؤال الهوية من أهم أسئلة العصر، وهو سؤال قديم جديد، يَبرز كلما دعت الحاجة إلى فهم أعمق لذواتنا من ناحية، وعند حضور الأزمات من ناحية أخرى. قد يكون الجواب السهل لهذا السؤال، ترديد تعريفات تقليدية وآمنة تعكس "واقع" الحال. على سبيل المثال: عندما أتكلم عن ذاتي، فأنا اسمي "بدر"، ذكَر، عربي، مسلم، أستاذ جامعي. نرى مثل هذه الصيغة تتداول عند الإجابة عن سؤال الهوية. فمَن سيعارض تعريفًا يحتمي بالجنس والعرق والدين والوظيفة؟ ولكن، تعريفٌ من هذا النوع يُعتبر تعريفًا ناقصًا. فالهوية أبعدُ ما تكون من حالة جامدة تعكس قوالب شخصية، بل هي حالة عامة وسائلة ومجتمعية، تنعكس على الشخص وتُشكله. وسؤال الهوية الحقيقي الذي يَنشُد أجوبة عادلة، هو سؤال جدلي بطبعه. جدال الهوية حي قائم، في مقدوره إحالتنا إلى مساحة صحية أو مرضية، بناء على كيفية رسم هذه الحالة الجدلية، وأُفُق انعكاسها على الشخص والمجتمع الذي ينتمي إليه.
في العودة للمثل، لا وجود لـ"بدر" الذكر دون الأنثى، ولا وجود لـ"بدر" العربي دون غير العربي، ولا وجود لـ"بدر" المسلم دون غير المسلم، ولا وجود لـ"بدر" الأستاذ الجامعي دون بقية المهن، فضلًا عن بقية الانتماءات ضِمن هذه القوالب ونقيضها (العائلة أو القبيلة أو الدولة أو الحزب أو الجمعيات المدنية أو الهويات أو ما إلى ذلك).
الهوية إذًا كيان حي مكوَّن من عوامل انتماء عديدة، هي نفسها متحركة من شخص إلى شخص، ومتنقلة داخل الشخص ذاته، بناءً على وضعه ورؤيته لنفسه. هذا ما يشار إليه بنظرية "البصَلة"، حيث مفهوم الهوية يقاس بشكل البصلة. فكل قشرة أو طبقة من طبقات البصلة ترمز إلى شقٍّ هويَّاتي. وجود طبقة ظاهرة لا تلغي الطبقات الدفينة، فهي بدورها طبقات تتبدل، تَظهر وتتسيَّد عند الحاجة وبناءً على الظرف.
كل تلك الطبقات أبعدُ ما تكون من صناعة ذاتية. فالأشخاص ليسوا جُزرًا منعزلة، فهم يتشكلون ويشكلون عبر تعاملهم مع الآخر المختلف. الآخر بصفته مرآة لي يُعينني على فهم نفسي، ولكن قلما ننظر إلى الآخر بوصفه عامل بناء في مجتمعاتنا، حيث تطغى الريبة والخوف من المختلف. بناء عليه، عادة ما يجري اختزال مفهوم الهوية في إطار ضيق، وكأنه دليل إرشادي مُعدٌّ سابقًا، ويوجب علينا التزام تعريفات معيَّنة "من إلى"، تجعلنا نسخًا مكررة ورتيبة من أنفسنا، متناسين أو متغافلين أن لكل منا مخزونًا من التجارب الثرية، التي تتأثر بغيرها وتتشكل عبْرها.
لذلك، الهوية صناعة جماعية يشارك فيها الكل. والإمساك بخيوط هذه الهوية ليس بالأمر الهين. فأنت تتشكل وتتغير من حيث لا تَعلم، وما الدعاء الإسلامي المأثور "ربي عرِّفني بنفسي" إلا دلالة على ذلك، وعلى ما لهذه النفس من قابلية تنوع وتبدل صحي ومطلوب، لتُساير سنن الحياة في التدافع والتغيير المحمود. هذا ما يحيل الهوية إلى كيان حي متطور. وكلَّما كان فيها زخم وأبعاد مختلفة، كانت أكثر ثراءً ومنفعة، وهذا الثراء يساعد المجتمع على تطوره وازدهاره. الهوية الحية تنهل من منابع عدة، وتستقطب كل ما يقويها، بخلاف الهوية الميتة المستكينة في قالب ضيق محدود.
لم ينهض أي مجتمع ويصل إلى مراحل عليا من التقدم، إلا عندما يصبح حاضنًا للتنوع. وعاء يستقطب كل المختلفين ليستخدم أفضل ما لديهم. لا أستطيع معرفة نفسي بدون وجود آخر يذكرني بها، ويرشدني إليها. ولكن، هذا عكس الحال. أصبحت الشعوب العربية -في كثير من الحالات- "كانتونات" ترتضي هويات ضيقة تقتل روح التنوع. تشجيع قوالب متشابه بعضها مع بعض لترجمة أي هوية، ما هو إلا شهادة وفاة للنفس والمجتمع. ما يجب السعي إليه هو شهادة ميلاد متجددة، قادرة على استيعاب ذاتها من خلال استيعاب الآخر بكل تجلياته. التنوع والاختلاف في مجتمعاتنا، هو دليل قوة وصحة يستوجب الاستثمار، فعبْرَهُ تتشكل هوياتنا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.