هذه الجموع التي تغادر الديار بحثًا عن حياة أفضل، ليست جموعًا مهاجرة، بل جماعات مَنفيَّة. إنَّ الهجرة في باطن معناها تَحمل شيئًا من حرية الاختيار، أما ما نشهده من شتات كبير فهو رحيل قهري. وفيه يصبح الفرد مضطرًّا إلى مغادرة موطنه، بسبب ما خلَّفته الحروب والأزمات، ونسجته السلطوية الحاكمة في بلداننا.
لقد أصبحنا جميعنا أبناء مَنفًى، حتى وإن بقينا في أوطاننا. فنحن لسنا سوى مَنفيِّين/ات، لم نجد الطريق إلى وجْهتنا بعد. هكذا صارت مشهدية الحياة من حولنا. المدن الآمنة تتسرب من بين أيدينا، وتتحول شوارعها إلى كومة خراب، وتمتلئ طرقنا بالحواجز والخوف والجوع، في حين تغادرنا سنوات العمر، التي ربطنا على نواصيها يومًا الكثير من الأحلام والضحكات المؤجلة.
في حديثي إلى أحد أساتذة "عِلم الإناسة" (الأنثروبولوجيا) الأوستراليين، قال لي مصدومًا: "أكثر ما لفتني في معظم الشباب العربي ممن ألتقيهم، هو حرصهم على حيازة المهارات التي تجعلهم مشاريع هجرة جذَّابين. لا أحد منهم يرى أن الاستقرار في جغرافية بلده خيارًا جيدًا. هناك تفنُّن في صياغة المَنفِيِّ المحترف". أيضًا تذكرتُ صديقًا ليبيًّا التقيت به حديثًا، قال لي وهو يسرد مسار حياته: "شعرت بالأمان بعد حصولي على وثيقة سفر من دولة أوروبية. لا يهمني من الآن وصاعدًا ما تضعه الحياة أمامي من تحديات". ذكر لي رحلة الموت التي وقف الحظُّ فيها في صفِّه، وانتهت بنجاة أعقبتها رحلة شاقة، لاستبدال وثيقة سفر عاثرة، بأخرى تمنحه الأمان الذي طالما حلم به.
في السنوات الأخيرة، شاعت ظاهرة في أوساط الشباب الذين قد تشهد بلدانهم اضطرابات مستمرة، وهي اعتبار الحصول على منفًى جيد أحد معايير النجاح الشخصي. العديد من الأفراد الذين نجحوا في الذهاب إلى المنافي الأوروبية، وجدوا أنفسهم مستشارين/ات لآخرين توَّاقين إلى فرصة مشابهة. وبعضهم وجد نفسه تحت الأضواء، محاصَرًا بأسئلة الناس عن تفاصيل الهروب وتقنياته أو الهجرة المثالية. فقد غيرت مآسي الحرب حياة الناس رأسًا على عقب، وجعلت الرحيل عن الوطن أولوية. الجميع ينشد النجاة بكل ما أوتي من فرصة. صار المرء فينا يعيش حياتين: الأولى تجريبية، مهمتها الجليلة إيصال صاحبها إلى وطن آخر، لكي يبدأ حياته الثانية من جديد.
لكن المفارقة اللافتة، هي أن المنفى ارتبط على مدى التاريخ بالعقوبة التي فُرضت على فئات معينة من الأفراد، باعتبارها إجراءً تأديبيًّا من قبل بعض السلطات الحاكمة. أما اليوم، فالمنفَى حلم يسعى له الكثيرون/ات، ويناضلون من أجله، ولا يترددون في ركوب الخطر من أجل الظفر به. لكن هذا التحول في مفهوم المنفى لا يعني أن عذاباته قد تلاشت، وأنه أصبح أمرًا مختلفًا؛ إذ هناك الكثير من العقبات التي تظل ترافق المُبعَد فترات طويلة. والفرق أن المنفِي يُقارن عادة عقبات منفاه الجديد، بخراب موطنه الذي وفد منه، لتنتهي المقارنة بفوز المنفَى بحقائب المُبعَدين/ات، وبأن يقضوا حياتهم مستبدلين جروح البلد الأم، بعذابات الاغتراب وتحديات البلد الجديد.
في تفكيك ظاهرة المنفَى، يمكن ملاحظة اختزالها للعديد من التأثيرات المتحولة. فالمنفِيّ/ة يقع دائمًا في مصيدة الزمن. ومعظم من مروا بهذه التجربة، خرجوا وفي تصوراتهم أن ذلك إلى زمن قصير، وأن رحلتهم لن تتعدى الأسابيع أو الأشهر، ثم بعدها يعودون، لكنهم يُفاجَؤون بمُضيِّ السنين دون أمل في الرجوع. وبعضهم الآخر يربط منفاه بالحصول على وضع قانوني أفضل، كالحصول على جنسية أو غيرها، لكنه يجد نفسه بعد حين غير قادر على الرجوع إلى الخلف.
التأثير الآخر له علاقة بالانعكاس النفسي لهذه التجربة. فالمنفى هروب يجبر صاحبه على الركض المستمر، وهو سمة نقيضةٌ للاستقرار. فالبلد غير المستقر الذي قَدِم منه المَنفِيُّ، لا يمكن نسيانه بسهولة؛ إذ تصبح حياة المنفِيِّ القديمة فيه، ناظمة لحياته الجديدة، ومعها يصبح المَنفَى كبلده الأم مضطربًا. وأيضًا إن أجبر نفسه على الاندماج، يبقى فيه شيء غير قابل للسكون. لكن الأسوأ، هو أن حياة بعض المنفيين تتوقف منذ بدء رحلة النفي، وتتحول إلى عملية تدوير ضخمة لذكريات الماضي وتفاصيله، دون وجود متسع لجديد، أو رغبة في عبور.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.