ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 19 على الآتي: "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتَلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود".
يعني ذلك على نحو واضح لا لبس فيه، حريةَ كل إنسان في التعبير عن رأيه باستعمال أيٍّ من المنابر القانونية المتاحة. وهو الأمر الذي تَوسَّع في السنوات الأخيرة مع ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي منحت مليارات البشر مَنابر مجانيّة، مُتيحةً بذلك فرصةً لم تكن متوافرة لهم من قبل، مع حصر التعبير العام -القابل للانتشار- في وسائل: كالصحافة على أنواعها والكتب ووسائل الإعلام التقليدية، التي كانت حكرًا على فئات معينة، وكان الوصول إليها محدودًا.
ما أظهرَته هذه التجربة عبر السنوات هو ظهور أفكار وتعابير قد لا نتفق معها، من الاختلاف الطبيعي في الرأي حول قضية معينة، وُصولًا إلى الترويج لأفكار تبدو عنصرية وتمييزية ومتطرفة ومؤسِّسة لخطاب الكراهية، في ظاهرة تُعَدُّ مزعجة وغير مقبولة بالنسبة إلى كثيرين/ات، خاصة المؤمنين منهم بحقوق الإنسان، وأولئك الذين يُعتبرون مؤهَّلين علميًّا –أو يمتلكون الخبرة المتراكمة والتجربة- للخوض في شؤون بعينها.
فصار من المألوف أن نشاهد مدوَّنات وفيديوهات لأشخاص غير معروفين أو غير مؤهلين، يُفْتون فيها في شؤون علمية أو طبية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية -ولهم ملايين المتابعين، وينشرون فيها أفكارًا وآراءً ومضامين ما أَنزل الله بها مِن سلطان.
في الحقيقة، قد تكون إتاحة منبر شخصي مفتوح على العالم سيفًا ذو حدَّين. فإضافةً إلى تسهيل المنبر حصول البشر على حقهم في التعبير والإعلان، أمسى أيضًا وسيلةً لدى بعضهم إلى نشر أفكار مغلوطة وأخبار مزيفة، عن جهل أو عن معرفة، عن عمد أو عن غير قصد.
بعد أزمة جائحة كورونا التي ما تزال فصولها مستمرة، والصراعات السياسية والعسكرية التي استمرت خلالها، ظهرت أمثلة واضحة على التأثير السيِّئ -بل المدمر- لسوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، سواء من قبل جهات منظمة أو مِن أفراد. فنشْرُ معلومات مغلوطة أو غير دقيقة أو أخبار مزيفة بشأن فيروس كورونا وأعراضه وطرق انتقاله وسبل علاجه، أفضى إلى تمدد انتشار الجائحة، وأدى بالنتيجة إلى موت أشخاص أصيبوا به، ولربما كانوا نَجَوا لولا تلك المعلومات والأخبار. وفي الانتخابات الأميركية، كان لِنشر الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" عبر تويتر معلوماتٍ مضلِّلة، أثرُه في التلاعب بعواطف الناخبين والرأي العام.
لعل أكثر من ينظرون إلى هذه الظاهرة من جانبها السلبي، هم الأجيال الكبرى عُمرًا، ممن لحقوا عصر ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي، وعصْرَها الحالي اليوم. فالأجيال الكبرى اعتادت وسائل أكثر ضبطًا -وإن لم تخْلُ من شطط أحيانًا كثيرة- إلى جني المعلومات وتكوين المعرفة وبناء الرأي، في حين قد يكون من المتوقَّع مع مرور الزمن، ومع الوصول إلى وقت تكون فيه أجيال البشرية بكاملها قد نشأت وترعرعت في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي، أن يكون الأمر مختلفًا، حيث لا مجال لمقارنة ماضٍ مَعِيش خالٍ من هذه الوسائل بِحاضر وجودها.
رغم ذلك، لا بد في الوقت الراهن من قبول حقيقة وجود هذه المنابر، التي عززت من جانبٍ ما حرية الرأي والتعبير وتَوافُر المنبر، مُراهِنةً على جانبها الإيجابي وقبول ما قد يَظهر من جوانب سلبية لها، مع السعي لتطويرها وتلافي هذه الثغرات قدر الإمكان. وربما أيضًا لا بد من اعتبار الآراء الأخرى -على غرابة بعضها وشذوذها- تمرينًا على قبول الرأي الآخر، وتعزيز الرحابة الفكرية.
بخلاف أدوات الأنظمة الديكتاتورية، التي تسعى من خلال الترهيب وحجب الوصول إلى هذه المواقع وسنِّ قوانين تخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يجب تطوير أدوات رقابة صحية مضبوطة، للحد من الأثر السلبي المخالف للقوانين الصحيحة التي تُسنُّ في هذا المجال، والتي ما تزال بحكم التجربة والتطوير. المقصود بالقوانين الصحيحة هو تلك المبنية أيضًا على نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وروحه، لتجنُّب نشر التطرف العنيف وخطاب الكراهية والحض على العنف والعنصرية، بشروط تُعزز هذه الحقوق، دون المسِّ لِلجزء المتعلق منها بحرية الرأي.
في هذا السياق، يجدر ذكر تجربة فيسبوك على سبيل المثال، من خلال "معايير المجتمع" والذكاء الاصطناعي، للتعامل مع مجمل ما تشهده ساحة هذا الموقع من طروحات. فهي -وإن ضبطت بعض الشيء المعلومات المنشورة بشأن كورونا وبعض القضايا الأخرى-، أشارت إلى أن بدائية التجربة وسوء استخدامها من قبل الجيوش الإلكترونية وضغوطات الأنظمة السياسية، أدَّت في أحيان كثيرة إلى حجب بعض المستخدِمين/ات (الذي لم يخالفوا سياسات فيسبوك في الحقيقة)، وإلى تقييد آرائهم.
الأفضل برأيي -وربما الأصعب منالًا- هو الوصول إلى ثقافة مستخدِم(ة) متقدمة، بما يكفي للتمييز فيها بين المحتوى الصحيح وذاك الزائف أو غير المقبول. فتزول الحاجة تلقائيًّا إلى أي رقابة أو ضبط.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.