في العام 1956، جرى اتفاق بين وكالة "الأونروا" والأردن الذي كانت القدس الشرقية والضفة الغربية تحت سلطته، قضى بنقل 28 عائلة فلسطينية من نازحي نكبة 1948 للسكن في حي الشيخ جراح، على أن تقدم الحكومة الأردنية الأرض، وتتكفل الأونروا ببناء المنازل، بناء على اتفاق بأن تكون البيوت مؤجَّرة للعائلات مدة 3 سنوات لقاء أجر رمزي، ثم تتحول ملكيتها إليهم.
بُنيت المنازل وسكَنَتها العائلات، إلا أنَّ نقل الملكية لم يتم مِن جرَّاء نكسة 1967 واحتلال إسرائيل للمنطقة. ما حصَل مَكّن مستوطنين إسرائيليين بُعَيد احتلال القدس الشرقية سنة 1967، من الاستيلاء على أحد هذه المنازل لغياب ساكنه عنه حينها. في عامي 2008 و2009 جرى تهجير بعض هذه العائلات والاستيلاء على منازلها من قبل المستوطنين، وأخيرًا أصدرت محكمة إسرائيلية قرار إخلاء 7 منازل من سكانها على مرحلتَين، مع وجود مخطط لبناء 200 وَحدة استيطانية أو أكثر في الحي، رغم وجود وثائق أردنية تثبت حق ملكية العائلات للبيوت.
تَخلَّل كل ذلك تفاصيل قانونية كثيرة، منها ما بُني على باطل أو تزوير أو قوانين جائرة، وذلك في ظل مضايقات مستمرة من المستوطنين الذين استولوا على بعض بيوت سكان الحي، مثل: رمي النفايات، وإطلاق الجرذان، وحرق خِيَم المتضامنين، وُصولًا إلى التعري العلني بحسب شهادات بعض سكان حي الشيخ جراح الفلسطينيين.
إنَّ الفيديوهات المنشورة بعد تطور الأحداث خلال الأيام الماضية، تُظهر مستوًى من الوقاحة قد يكون غير مألوف لدى كثيرين، تَمثَّل بالاستقواء بقوة السلاح والقانون الجائر، من أجل استيلاء محتلِّين متطرفين دينيًّا على أملاك أصحاب الأرض. وبسبب صعوبة تزوير القصة من الجانب الإسرائيلي، إضافة إلى خلوها من الصراع العسكري وتبادل الرصاص والقذائف، أخذت قضية حي الشيخ جراح بُعدًا آخر، وكسبت تضامنًا واسعًا حول العالم مع كل جهود المواطنين/ات الفلسطينيين، في دعم إخوانهم في الحي، والوقوف بشجاعة في وجه الإسرائيليين (المستوطنين والشرطة والجنود).
إنْ كان من جانبٍ إيجابي فيما يجري، فهو انكشاف ضعف الموقف الإسرائيلي، الذي كان يتذرع في صراعات سابقة بحماية المدنيين ومهاجمة تنظيمات يصفها بالإرهابية. أمّا قضية اليوم، فلا حديد فيها ولا نار -حتى تاريخ كتابة هذه السطور على الأقل-، وطرفها الفلسطيني مدني أعزل، إضافة إلى ضرورة هذا الحدث والمَشاهد التي تسربت منه، للتذكير -في زمن شهد تطورات سلبية على صعيد القضية الفلسطينية- بحقيقة دولة الاحتلال وطموحاتها، وببشاعة أدواتها، ومدى الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني ونوعه.
تذكير مماثل، قد يكون مفيدًا لجيل لم يعرف ما يكفي عن إسرائيل، وما فعلته وتفعله. في استعادةٍ للرواية الأصلية بعيدًا عن التطبيع والسلام الزائفين المَبنيَّين على تجاهل حقوق أصحاب الأرض، بل وأيضًا في مثالٍ جليٍّ على قدرات الشعب (الأصل) بعيدًا عن أي قيادة سياسية، فالمبادرة أو الفعل الأساس هنا هو للمواطنين/ات الفلسطينيين، لا لِلقيادات المنشغلة بانقساماتها وصراعاتها واستمرارها في السلطة، التي لم تفعل سوى ما هو أشبه بالبيانات التي لا تُغْني من جوع.
حقوق الشعوب يجب ألَّا تموت بالتقادم، وما يفعله الفلسطينيون/ات الصامدون اليوم، والمدعومون بأعداد لا حصر لها من مواطنيهم، أكبر مثال على ذلك. فالشعب الفلسطيني الحر، هو أمُّ قضيته وأبوها. لا قيادات، ولا أنظمة حكم -قريبة أو بعيدة- اتخذت القضية الفلسطينية ستارًا، أو اصطنعت عَداءً لإسرائيل لتضطهد شعوبها، أو لتحاول كسب شرعية لم تستطع كسبها يومًا في صندوق الاقتراع للتمسك بالسلطة.
ما يجري، يستعيد الصورة النقية للقضية والصراع، ويفيد في استعادة وعي أجيال وأجيال من الشعوب العربية، التي قد تكون نسيت قضية فلسطين أو نفرت منها، بعد كل ما عانته من حكامها وغيرهم بِاسم فلسطين زورًا.
الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، ليست نكبةً جرَت مرة واحدة في التاريخ الماضي وانتهت، حتى نتصالح اليوم، ونضع كفَّنا في كف المحتل مصافحين وصافحين! الجريمة مستمرة، تهجير واحتلال وقتل واعتقال وسجن وتعذيب وعنصرية وتشويه وإذلال، كل سنة وكل شهر وكل يوم حتى كل دقيقة وثانية. وعليه، تَسقط روايات رُوِّج لها أخيرًا، تُمهد لنسيان الماضي -وكأنه لا يعيد إنتاج نفسه- وللتجاوز عنه.
لكن، اليوم وحيث نحن، ما العمل؟ قد لا نستطيع -نحن البعيدين- فعل الكثير، أو مساعدة أولئك الذين على الأرض مباشرة، ولكننا نستطيع على الأقل استعادة الحقيقة إن كانت غابت قليلًا عن أذهاننا، ونشْرَها في كل مكان لتبيان الحق وكشف الباطل، وعدم السماح لِأَيٍّ كان بأن يصادر النضال الفلسطيني، أو ما هو مِن أجل فلسطين، أو بأن يسلبنا –بِاسْم فلسطين زورًا- حقوقنا، بصفتنا بشرًا مواطنين في بلداننا. فاستعادة الحق الفلسطيني لا يمكن أن يقوم بها إلا أحرار أقوياء، لا مقهورون، ولا أتْباع ديكتاتوريات وشموليات. فما بُنِي على باطل هو باطل، ولا يُجْنى من الشوك عنب، ولا مِن العُلَّيق تين.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.