ذهبتُ خلال رحلة عمل إلى مدينة "سوسة" التونسية، بهدف التعرف إلى المدينة وزيارة معالمها. المدينة -والحق يقال- جميلة بأبنائها أولًا، ثم بمتحفها ذي اللوحات الفسيفسائية والتماثيل الرومانية، وقلعتها المُطلة، والجزء القديم من أحيائها، وبالطبع جامعها الشهير الذي انتظرتُ ساعتين ليفتح أبوابه عند صلاة العصر حتى أزوره. إلا أنه استوقفني بعد البوابة الخارجية مَن يبدو أنه حارس الجامع، وبعد أسئلة سريعة رفض السماح لي بالدخول لأني غير مسلم. لجأتُ إلى المؤذِّن، فلم يسمح لي -وبعد جدل- بسوى دخول ساحة الجامع لا داخله.
تذكرتُ في طريق العودة حادثة شاهدتُها في سن المراهقة في كنيسة بِحَلب، حيث دخل صبي مسلم ساحة الكنيسة ليشرب من صنبور ماء، فوبخه مسيحيٌّ متقدم في السن وطرده، في تصرف لا سبب له بالنسبة إلى الرجل المسيحي، إلا دين الطفل وهوية المكان. تهيُّبي لكبار السن، وصغر سني آنذاك، منعاني من الاعتراض على الرجل وردِّه عن فعلته التي ساءتني كثيرًا وقتها، حتى أني لم أنسها بعد ٢٥ سنة، ولا أظن أن الطفل المسلم قد نسيها بدوره.
على أي حال، لن يَقصر عمري أو عمر الطفل المسلم أو أي أحد، إن مُنع من دخول هذا الجامع أو تلك الكنيسة أو ذاك المعبد، ولن نُحْرم دخول "الجنة"، ولن نُبعث إلى "النار" للسبب نفسه. وغالب الظن أن المنع في الحالتين أتى من خلفية الاقتداء بعادات أو أفكار دينية قديمة -صحيحة كانت أم خاطئة-، لكن السؤال الأساسي الذي يُطرح في حادث من هذا النوع هو: "ما هو فهمنا لله؟ وما تعريفنا له؟ وكيف نرى الآخر المختلف؟".
إن كان المسلمون يسمون المساجد بيوتًا لله، ويَعدُّونها دُور عبادة يُذكر اسمه فيها، وإن كان الإسلام نفسه دينًا عالميًّا أتى من الله لجميع البشر لا لفئة محددة منهم - فإنَّ منع غير المسلمين من دخول الجامع يبدو أمرًا صعب الفهم. فهل يُفترض أن غير المسلمين الذين يأتون الجامع زائرين/ات، لتأمل جمال بنيانه وزخارفه، وربما لسماع تلاوة خاشعة للقرآن، أو لحسن رفع الآذان فيه، يتربصون بالجامع شرًّا، لكي يحتاج الأمر إلى أن يقوم أحدهم بحماية بيت الله منهم؟! وإن كان الله للجميع، والإسلام أتى لكل البشر، فمن ذا الذي يجرؤ على منع أحدهم من دخول بيت لله؟
في السياق نفسه، وبحسب بعض مصادر المذهب المالكي المنتشر في تونس: "يُمنع دخول "الكافر" المسجد وإنْ أذن له مسلم، إلا لضرورة عمل"؛ ما يطرح قضية تكفير هذه الفئة أو تلك من غير المسلمين، ويولد الحيرة أمام منع "الكافر" من فرصة التعرف إلى الله في بيتٍ من بيوته.
تزامنت كتابة هذه السطور مع حادثة متصلة، انتشرت فيديوهاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، يَظهر فيها أداء مئات من المسلمين المتنوعي الجنسيات صلاة التراويح، في "تايمز سكوير" (Times Square) بمدينة نيويورك الأميركية. فأصبحت "ترند"، سال على صفحاته الكثير من الحبر الافتراضي، ممن أشاد بما حصل واعتبره انتصارًا للإسلام، ودعوة إليه، وتبيانًا لفضائله، خاصة تلك التعليقات المتعلقة بشهر رمضان، في حين اعترض بعضهم على استعمال الساحة المفتقدة للحشمة والهدوء اللازمين لأداء الصلاة، أو على تحويل مرفق عام إلى مكان خاص يقيد حرية الآخرين في استعماله، خاصة إن كان دون تنسيق مع الجهات الرسمية المعنية.
لن يثير الكثير من الاستغراب لو تتَبيَّن أن من منعوا غير المسلمين من دخول جامع تاريخي جميل، كانوا ممن أشادوا بأداء صلاة التراويح في وسط نيويورك، على الرغم من التناقض بين منع "المختلف" من دخول مساحة تبدو خاصة في الحالة الأولى، واستعمال مساحة عامة من قبل فئة خاصة في الحالة الثانية.
من الجيد أن يتعرف غير المسلمين -وربما بعض الأميركيين خاصة- إلى الممارسات الإيجابية للمسلمين في شهر رمضان، وأن يُعزَّز نشر التفسير أو الفهم الإيجابي للدين بشأن التعامل مع الآخر المختلف، بدل نشر الفهم المتزمت المعادي للاختلاف. ولكن، إن كان هناك من انتصار في حالة صلاة التراويح في الساحة النيويوركية، فهو -برأيي- انتصار للعلمانية، قبل أن يكون إنجازًا أو انتصارًا لأي جهة أخرى. تلك العَلمانيّة التي "تُقدم نفسها اليوم كنظام مُحايد لا يقف ضد الدين، ولا يُشجع على الإلحاد، بل يقدم الإطار السليم لضمان حرية الدين والمعتقد وممارستها، دون تسلط فئة على أخرى أو على أي من المواطنين". وها هي السلطات المحلية في نيويورك التي تضم أكثر من 275 مسجدًا، لم تمنع المصلين من أداء صلاتهم، مع شغلهم لمساحة عامة، وتقييدهم لحرية رواد الساحة الآخرين.
بعيدًا عن السياسات الخارجية لهذه الدولة أو تلك، والموقف من الإدارات الأميركية المتعاقبة، فإن العلمانية هي التي انتصرت في "تايمز سكوير"؛ إذ قبلت الاختلاف، وراعت التنوع الذي يضمه المجتمع، وذلك في صورة معاكسة -مع الإقرار بالفوارق- لمنع مسيحيٍّ/ة من دخول جامع، أو طرد مسلم/ة من كنيسة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.