"علّمتُ ابني جدول الضرب قبل إرساله إلى المدرسة. وبعد إكمال عامه الدراسي الأول، عاد إليّ وقد نسي الجدول وأُسس الحساب، ولم يَعلق بذاكرته سوى أشعار الحرب التي تَعلَّمها وزملاءه في الصف، فاستحق بحفظها الانتقال إلى صفه الثاني". بحسرة وإحباط كبيرين، كتب إليّ أحد الأصدقاء تلك العبارة حين سألتُه عن مستوى مدرسة الحي الذي يقطن به. لكن هذه الحكاية ليست حدثًا فرديًّا، بل تفصيلًا عامًّا لحال آلاف التلاميذ والتلميذات اليمنيّين، الذين توغلت الحرب داخل فصولهم التعليمية، ثم أخذت تتجسد في شكل نصوص شعرية، وهتافات في الطوابير الصباحية، ورموز في متون الكتب المدرسية. فبدَت المدرسة امتدادًا لميدان الحرب غير البعيد.
بعد مرور 8 سنوات من الحرب، تَكشّف المشهد المريع لانعكاساتها داخل حقل التعليم. وبحسب تقرير لمنظمة اليونيسف: هناك ما يربو على مليوني طفل (فتيان وفتيات في سن الدراسة) خارج المدارس، بسبب الفقر والنزاع وفقدان فرص التعليم؛ حتى إنَّ من استطاعوا تجاوز العقبات وتمكنوا من مواصلة التعليم، وجدوا بعض أشكال الحرب تتربص بهم داخل مدارسهم. فبات ما يتلقونه من تعليم، له علاقة بالحرب أكثر من علاقته بالحياة والمستقبل.
لقد جرى تغيير معظم عناصر البيئة التعليمية، وعُدِّلت المناهج الدراسية، وأُدرج فيها الكثير من التغييرات التي تتلاءم مع التعبئة الحربية. لم تشمل التغييرات مناهج الدين والتربية الوطنية فقط، بل طالت معظم المواد الدراسية. على سبيل المثال: في مناهج المراحل الابتدائية لم يعد نص "أغنية البلبل" موجودًا، حيث حلَّ محله موضوع طفل مجنَّد يصرخ ويدعو رفاقه إلى القتال بجواره. أيضًا اختفت صور المهندس والطبيب والفنان، ليحلَّ مكانها صُوَر قادة الحرب وهم يرتدون معاطف المعركة، حتى إنَّ رموز مادة الرياضيات التي كان معظمها زهورًا وألوانًا احتل مساحتها الرصاص. وبعد أن كان بادئة المثال الحسابي: "لديك خمسة أقلام..."، أصبحت: "لديك خمس بنادق..". لذا، كان على طفل المدرسة أن يقضي عمرًا للخروج من متاهة الأدلجة.
الأنشطة المدرسية، هي الأخرى جرى إعدادها لتوافق التدريبات الحربية. وصار الوقوف في طابور الصباح هو وقوف ضمني، لتقديم فروض الإجلال لثقافة القتال. والعبارات المستخدمة والشارات والحركات المتبعة، جميعها تحمل العنوان نفسه. وفي الوقت الذي يتعذر فيه حضور الكثير من المعلمين بسبب عدم حصولهم على رواتبهم منذ أكثر من خمسة أعوام، يحضر بانتظام معلمون جدد، مهمتهم حراسة الحرب داخل الصفوف. فيعملون بصرامة على ملء جداول الحصص بما يُبقي الرصاص حيًّا.
في الكثير من المدارس، لم يعد هناك مساحة لتعلُّم المهارات والقدرات. فقد تَرافق هذا التحول مع تجهيل واسع. والمواد المهمة التي كانت موضع تنافس، خسرت بريقها بعد أن خسرت معلميها، وحلَّت مواد التعبئة الحربية مكانها. هناك عشرات الآلاف من الطلاب الذين يتدرجون في الصفوف بلا كفاءات ولا استحقاق، وبعضهم وصلوا إلى مرحلة التعليم الثانوي وما زالوا لا يجيدون القراءة والكتابة.
حديثًا، نشطت بعض المؤسسات من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أنَّ التدخلات الإنسانية التي استطاعت أن تلفت انتباه العالم إلى الكارثة التعليمية التي يعيشها اليمن، لم تستطع معالجة كارثة عسكرة العملية التعليمية. فظلت أنشطتها خارج أبواب المدارس، وبقيت العملية التعليمية داخل الصفوف الدراسية ساحة تتحكم فيها الميلشيات حصرًا.
بعد عشر سنوات من اليوم، سيصبح اليمن متخمًا بكتلة سكانية هائلة لن تجد فرصًا اقتصادية جيّدة، لأنها لا تمتلك قدرة على أن تَبرع في ذلك، لكنها وبلا شك ستكون مادة مثالية لحروب لن تنتهي. يخسر اليمن اليوم رأس ماله البشري، ويخسر معه المستقبل الذي نُرحّل إليه آمالنا في أن يكون مختلفًا عن حاضر الصراع الذي نعيشه.
إن الكتابة حول مأساة التعليم في اليمن ليست استعراضًا لجانب من تراجيديا الحرب، بل هي للدفع نحو التفكير في حلول حقيقية لمعالجة الكارثة؛ إذ يستدعي الأمر البحث عن بدائل آمنة للعملية التعليمية، بعيدة عن سطوة المقاتلين. قد يكون التعليم الإلكتروني أو التعليم المستند إلى المهارات المتخصصة من ضمن تلك البدائل. ويبقى فتح النقاش حول هذه البدائل هو واجب اللحظة، حتى لا يدفع جيل جديد فاتورة حروب قديمة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.