بحُكم عملي منذ سنوات، في التدريس الأكاديمي في مجال العلوم الإسلاميّة في جامعات أوروبية عدة، وبحكم تواصُلي في ذات الوقت مع عدد من مؤسسات البحث الديني الأكاديمي في البلاد الإسلامية؛ كثيرًا ما أقف أمام خطابَين، ما يفرِّقهما أكثر ممَّا يجمعهما في واقع الحال. فدعوني أسجّل بعض الأمثلة، التي تشرح ملاحظاتي على خطابَين أكاديميَّين مختلِفَين.
لا تكاد تجد بين الأكاديميين/ات المسلمين/ات في أوروبا، من يتعامل مع القرآن من خلال قراءة حرفية، لأنهم يقرؤونه قراءة مقاصدية إجمالًا. ثم إنَّ مُعظم الباحثين/ات في أوروبا –وللتذكير أنا أتكلم فقط عن أكاديميين/ات ثم مسلمين/ات–، يرفضون قراءة الآية ١١ من سورة النساء قراءة حرفية، والتي مُفادها أن البنت ترث نصف ما يرثه أخوها. وأيضًا يرفض معظمهم قراءة الآية ٣٤ من نفس السورة، على اعتبار أنها تُجيز للرجل ضرب زوجته. وبدلًا من ذلك، يضعون هاتَين الآيتين في سياقاتهما التاريخية، ليقرؤوهما بصِفتهما -على سبيل المثال- من الخطوات الأولية لتحسين وضع المرأة، وفْق معايير ذلك الزمان. فإعطاء البنت نصف إرث أخيها، كان خطوة اجتماعية ثورية، اعترض عليها حتى بعض الصحابة، وكان لا بد أن تليها خطوات أخرى، تقوم بها الأجيال القادمة التي تعيش في سياقات اجتماعية، تتقبل الحديث في المساواة بين الرجل والمرأة.
جاءت الآية ٣٤ من سورة النساء، ردًّا على ذلك الرجل الذي اشتكته زوجته للرسول (ص)، لأنه ضربها. فطلب القرآن منه -ومن أمثاله-، ممَّن تَعوّد ضرب زوجته، أن يعيد ترتيب إمكانات التعامل مع غضبه، الذي أفقده القدرة على السيطرة على نفسه، مقترحًا عليه أساليب أخرى لامتصاص ذلك الغضب، وجاعلًا العنف في المرتبة الأخيرة. أمَّا أصحاب الفهم الحرفي للقرآن، فيُصرُّون على أن العُنف الأسري -وإن كان خيارًا أخيرًا- يظل مسموحًا به. وأما أصحاب الفهم المقاصدي، فيرون أنَّ وضعَ القرآن للعنف في المرتبة الأخيرة، تبيانٌ لاتجاه حركة التغيير التي يسعى إليها. إنها حركة تريد أن تُبعِد ذلك المجتمع عن العنف، ولكن وفق معطياتِه هو نفسِه. أما وقد تغيرت معطياتنا اليوم، لا سيما في تلك المجتمعات التي تُعنى أكثر من غيرها بتكريم المرأة، فقد أصبح في إمكاننا تحقيق مقصد القرآن من التخلي التامِّ عن جميع صور العنف الأسري، بشكل أكثر فعالية.
أما بشأن موضوع إمامة المرأة للرجال في المسجد أو في البيت. ففي أوروبا عدد من المساجد المُنفتحة على هذا الخيار، ولا اعتراض عليها من قِبل معظم الأكاديميين المسلمين/ات المتخصصين/ات، بل يَستدل معظمهم بأقوال ترجع إلى ابن تيميَّة وابن حنبل، منقولة عن الرسول (ص)، وتُجيز للمرأة إمامة الرجال، في حين يميل معظم الباحثين في البلاد الإسلامية إلى حُرمة ذلك، مُحتجِّين بأنَّ المرأة عورة، وأنها ستثير مخيِّلة الرجال إن وقفت تصلي أمامهم، وتُشغلهم عن الصلاة. ولكن، يَندر في ذات الوقت أن تجد أكاديميًّا مسلمًا يعمل في بلد غربي، أو نشأ في ثقافة لا تختزل صورة المرأة بِمُجرَّد منبع شهوة للرجل، أن يتبنى مثل هذا الخطاب الذكوري. وأيضًا يَندر أن تجد أكاديميًّا مسلمًا يعمل في حقل العلوم الدينية في بلد تعددي، يتبنى خطاب التكفير لغير المسلم، أو يتبنى خطابًا إقصائيًّا يرى الجنة له ولأتباع دينه وحدهم فقط.
الأمثلة كثيرة، وكلها توضح كيف تلعب ثقافة الباحث(ة) دورًا رئيسًا في تأويل الدين. ومع بداهة هذه المقولة، فإننا حين نأتي إلى التطبيق تبدأ المزايدات، حيث نجد أن معظم الأكاديميين/ات المسلمين/ات سواء في الغرب أو في الشرق، والذين يتبنَّون رؤًى نتجتْ من انفتاحهم على ثقافات أخرى وسّعت من أفقهم المعرفي والثقافي، يتعرضون لمُضايقات من قِبل كثير من أقرانهم، الذين وقفوا معرفيًّا في مكان ما في الماضي، حتى إن منهم من يُتّهم بتزييف الدين أو تمييعه أو حتى وصفِه بالعمالة. وقد يصل الموضوع إلى التكفير والتهديد الجسدي، كما حدث لِمحمود محمد طه، وفرج فودة، ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم.
إذن، يبدو حرِيًّا بنا عوضًا عن المزايدات وتوجيه أصابع الاتهام، أن نكون على وعي متواضع، بأنَّ فهمنا أو تعاطينا مع النصوص هو ابن ثقافتنا وسياقنا المَعِيش لا أكثر. وكلما كانت هذه الثقافات أكثر إنسانية وقبولًا للتعددية، واحترامًا للإنسان بما هو إنسان -سواء رجلًا كان أم امرأة-، وأيضًا كلما كانت أشدَّ رفضًا للاستبداد الاجتماعي والسياسي؛ أفرز ذلك فَهمًا للدين ولنصوصه، يكون أقرب لروحه ومقاصده الإنسانية. إذن نقطة بداية تغيير فهم الإنسان لدينه، هي تغيير ثقافة الإنسان، وتغييرُ الثقافة يكون بفتح الأفق على ثقافات أخرى. أما من بقي مكبِّلًا ذاته في قفص ثقافة واحدة، فقد أخرج نفسه بنفسه خارج التاريخ.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.