لا يمكن أن تقرأ كتاب "الجمهورية" لأفلاطون دون أن تتساءل عن عظمة هذا الفيلسوف، الذي سبق عصره بأكثر من ألفي سنة. فهو المفكر الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وكان لديه رؤًى تجاوزت ما وصل إليه العالم الحديث في مفهوم العدالة الاجتماعية وتنظيم السياسات، حتى المساواة بين الرجل والمرأة. تتلمذ أفلاطون على يد سقراط، وكان معلمًا لأرسطو. وهو يمثل حالة فكرية وُجدت في قرون ما قبل الميلاد، وضعت أسس الفلسفة الغربية، وما زالت تُدرس حتى اليوم في أعرق الجامعات.
في كتابه الجمهورية يعرض أفلاطون المجتمع المثالي الذي يحلم به، حيث يتولى فيه الحكم أكثر الناس حكمة، ويجري اختيارهم عبر أسس توضع منذ مراحل التعليم المبكر، حتى يثبت المرء كفاءته التعليمية والثقافية عند اقترابه من عمر الأربعين. وأيضًا يرى أن الرجال والنساء يجب إعطاؤهم فرصًا متكافئة في إدارة شؤون البلاد. وظيفة حارس الدولة في "جمهورية أفلاطون" لا تروق لكل الناس، لأن المنصب ليس فيه منفعة شخصية، ويُحظر على حراس الدولة أو الحكماء أن يكنزوا الأموال والذهب. فهم عقلاء يتفرغون تمامًا لحكم الدولة وإدارتها، ويكفيهم هذا. ومن يسْعَ لهذا المنصب يجب أن يكون هدفه مصلحة الدولة، لا مصلحته الشخصية.
صحيح أن لفلسفة أفلاطون جوانب سلبية هي نتاج حضارة زمانه وقيمها ولا يمكن الموافقة عليها اليوم، ولكنها لا تنفي الجوانب العظيمة الأخرى لفلسفته، وقد لا تتفق مع أفلاطون في كل أفكاره، خصوصًا تلك التي تتكلم عن الأسرة. لكن، بوصفك قارئًا/ة لست مجبرًا على تبنِّي كل أفكاره، حتى إن أفلاطون نفسه بطريقته المميزة في الكتابة، لا يسعى لأن تنسخ أفكاره، بل يحثك على التفكير. استخدم أفلاطون علم الحوار منهجًا فلسفيًّا، وتَميز كتابه بأنه مجموعة حوارات بين فلاسفة، يضعها أمام القارئ الذي سيشعر بأنه جزء من هذه الحوارات، وليس مجرد مُتلقٍّ يستسلم فورًا لما يُعرض عليه من أفكار.
الأفكار لا تُحارِب ولا تُقيد إلَّا تلك التي تبث الكراهية، وتدعو إلى العنف. أما الفكرة التي تخلق حوارًا مجتمعيًّا للوصول إلى العدالة الاجتماعية، فيجب تشجيعها. فهي -وإن لم تعجب الجميع- ستخلق حالة من الوعي الجمعي. عندما يَطرح المثقف التساؤلات، يهبُّ الناس إلى نقدها أو التفكر في شأنها، وعندما تُقرأ الكتب المهملة في المكتبات وتنتشر الأبحاث والاستبيانات، تتغير السياسات والقوانين وتتعدل باتجاه مصلحة الناس.
الأفكار لا تنتهي، والقوانين يجب أن تتغير تبعًا لتغيير المجتمع والتطور. لذلك، فإن ركود الأفكار، وادعاء الحصول على إجابات قطعية صالحة لكل زمان ومكان، سببان لتدمير المجتمع. وما كان عادلًا قبل مئات السنين، أصبح تطبيقه اليوم ظلمًا بائنًا، مع اختلاف الزمن وأدوار الأفراد.
العبودية التي كانت شائعة في أغلب الحضارات القديمة، لم تُجرَّم -بشكلها الأصلي على الأقل- إلا في القرن الأخير، بوصفها نتاج حركات تحرر فكرية، دفع أصحابها ثمنًا كبيرًا لطرح أفكارهم التي تعارضت مع ما هو سائد وموروث، لكنها راهنت على العقل البشري الساعي للعدالة على هذه الأرض.
حركات تحرر المرأة التي أعطتها حق التصويت، ونادت بمساواة أجور العاملات في المصانع بأجور الرجال، ومنْع استغلال النساء، كانت نتيجة لأفكار تعارضت مع الموروث السائد، واعتمدت على العدل في حروبها الفكرية. كل التغييرات العظيمة بدأت بفكرة، حوربت في وقتها، لكن أصحابها أصروا وقدموا التضحيات حتى تخلصوا من الظلم. أفكارهم كانت عادلة واضحة وضوح الشمس، لكنها غريبة جديدة. وكل فكرة جديدة تعرضت للرفض والمحاربة.
اليوم في بلادنا نحن في حاجة إلى عدالة جامعة، تكون أسُسُها المواطنة، وتحتضن الجميع تحت ظلها. العدالة هي الهدف الذي يجب أن نضعه نُصْب أعيننا اليوم، ونحن نناقش الأفكار ونسعى لقوانين أكثر إنصافًا ومساواة. قوانين لا تفرق بين المواطنين على أسس الجنس أو الدين أو الطائفة أو العرق، قوانين تحترم التنوع والاختلاف وتدرك جماليته وثراءه، بل تحتفل به، وتؤسس لوعي قائم على الحرية الفكرية. قد تبدو هذه الأفكار جديدة غريبة، لكنها عادلة. والتاريخ أثبت لنا أن العدالة قادرة على فرض نفسها في النهاية.
للوصول إلى هذا الهدف، نحن في أمسِّ الحاجة إلى إدراك أهمية الحوار للوصول إلى الحقيقة. الإجابات الجاهزة لم تكن مناسبة في زمن أفلاطون، فكيف تناسب جيل التكنولوجيا اليوم؟ أهمية المثقف ليست في أن يلقي أفكاره على الناس ويطالبهم بتبنِّيها، بل بتحفيز عقولهم إلى التساؤل والتفكر والنقاش. التفكر والحوار على مستوى الفرد والدولة، يقودان المجتمع إلى العدالة المنشودة، وكل هذا لا يمكن إلا في ظل قوانين تحترم -بل تشجع- حرية الرأي والاختلاف.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.