"نيسان أقسى الشهور، يُخرج اللَّيْلَك من الأرض المَوات، يمزج الذكرى بالرغبة، يحرك خامل الجذور بغيث الربيع.." (مقطع من رائعة الشاعر الإنكليزي "توماس ستيرنس إيليوت": "الأرض الخراب"). لعلها مجرد مصادفة، أو ربما شيء آخر، أن يأتي نيسان هذا العام حاملًا معه بشائر رمضان المبارك، وتراتيل الفصح المجيد. ومع أن المسافة بين شهر رمضان وعيد الفصح تتجاوز مئات السنين، فإنَّ خيطًا ما يربط بينهما.
لست الآن في صدد بحث تاريخي أو تفصيلي عن المناسبتين، اللتين لا تزالان تنبضان بالحياة والحرارة، بشكل يصح وصفُه بأنه يغلي الآن أكثر منه في الماضي. لكن، ما يستوقفني دائمًا في الأساس، هو ذلك الخيط المتمثل بالعلاقات الإنسانية بين أتباع كل واحدة منها، وتأثيراتها وانعكاساتها في عموم المنطقة العربية والعالم.
يتخذ شهر رمضان طابعًا خاصًّا، يميزه عن بقية شهور السنة. وتُعد القيم الروحية والاجتماعية القائمة على التسامح والتواضع والتكافل والرحمة والعيش معًا، من أهم ميزات هذا الشهر. وهذه في الحقيقة هي الرسالة الحقيقية للإسلام المتسامح، والتعددي، والقائم على محبة الله، والداعي إلى حياة تسودها الفضيلة ومعاملة الآخرين بالعدل والمساواة.
العلاقة الثنائية بين أتباع المناسبتين باعتبارها حالة تاريخية، اكتسبت سمات أساسية من جهة، وتشكلت بمفاهيم ومضامين متداخلة ومتعارضة من جهة ثانية، وذلك بحسب اتجاهات القوى المتصارعة وشعاراتها في كل مرحلة من مراحل تطور هذه الحالة. والحقيقة، أن العلاقات الإنسانية لا تُبنى على مجموعة من الكلمات المصقولة والأحلام والمصالح، إنما تقوم -بالدرجة الأولى- على الاعتراف بحقيقةٍ مُفادها: "بمقدار ما أنا موجود، فإن الآخر موجود أيضًا". وأقصد هنا الاعتراف الواقعي، وليس الشكلي. فهذا الاعتراف يعني أن الآخر جزء من بُنْية أي مجتمع، حتى وإن كان هذا الآخر نفرًا قليلًا من الناس.
مِن المحزن أن نستقبل المناسبتين ونحن لا نزال نتعافى من تداعيات كورونا، التي دفعت بالعالم إلى منعطفات صعبة لم يحسن التعامل معها. ومن المبكي أن بعض الشعوب لا تزال تعاني ويلات الحروب والمجاعات، والتطهير الإثني، والاقتلاع، والازدراء. والأكثر قهرًا بحق -ونحن في العصر الحديث المعولم- أن يحضر نيسان هذا العام حاملًا في طياته رمضان والفصح معًا، وبيننا من لا يزال يسعى لدفعنا إلى الوراء، من خلال إثارة النعرات الدينية والطائفية.
فهؤلاء -ومع أن مناهج العلم والإعلام والثقافة كلها مجتمعة طورت أدواتها- يشقُّون طريقهم بسهولة إلى قلوب بعضهم، ويرشح منهم السم بسلاسة في عقول بعضهم، خاصة البسطاء والفقراء منهم. فالإنسان في حالات الضعف، يلوذ بكل ما من شأنه أن يعيد إليه الأمل. فإذا ما كان منفردًا في مصيره، فسيحتمي بأي جدار، حتى وإن كانت لَبِناتُه أوهامًا وسرديات شُيِّدَت على أساس خرافات دينية. وهذا بالضرورة نابع من عجز في قراءة الدين، وتطرُّف في تطبيقه، مع أن علاقة الدين -أيّ دين- بالتعددية والأخلاق الفضيلة، علاقة عميقة ومؤثرة، لأنهما يشكلان سندًا له، ومصدرًا يَستلهم منه أتباعُه القدرة على الصمود والاستمرار والتقدم. وهي علاقة إنسانية بحتة، على الرغم من المحاولات المستمرة لإضفاء طابع ديني عليها.
لن نظلم المنطقة العربية ودول العالم الثالث فقط، إذ مخاطر الصراع الديني تهدد العالم بأسره، والغرب الذي صدَّر لنا دراسات واتفاقيات مناهضة للعنف، ليس بريئًا أيضًا. أما جائحة كورونا فليست الأولى، والصراعات الدائرة حاليًّا لن تكون الأخيرة؛ إذ التاريخ مكتظ بالفجائع والدماء وموجات اللجوء، وقد تكون موجة اللجوء السوري هي النموذج الإنساني المكثف والأوسع والأشد إيلامًا في القرن الحادي والعشرين. والأسوأ أن منظمات الأمم المتحدة لا تزال تعاني نقصًا في التمويل والدعم، من قبل الدول المانحة للاحتياجات الأساسية لملايين اللاجئين في دول الجوار السوري. وفي موازاة ذلك، ثمة أطفال يولدون في المخيمات، بعضهم ينام منتعلًا حذاءه استعدادًا -ربما- لرحيل آخر، وبعضهم يحلم بفانوس رمضاني ينير خيمة له، لا سقف لها ولا قرار. وبعضهم يحلمون بنصيبهم من دهشة بيض العيد الملون، ولا تعنيهم كثيرًا موائد الرحمن، ولا يُلْقُون لثياب العيد بالًا، ولا يلهثون خلف المسلسلات في سباق رمضان الدرامي. فهم يعيشون في قلب تراجيديا التيه الحقيقية، يتابعون حلقات خيباتهم وعذاباتهم في ظل الإخفاقات الدولية في التخفيف عنهم! تَحضر المناسبتان هذا العام، وثمة شعوب كل ما تريده ألَّا يُنظر إليها بعين الازدراء، وأن تشعر بالأمان وهي مصطفة في طوابير الخبز، وألَّا تكون الأزمات الأخلاقية هي التي تحيط بتجمعاتهم.
قد تكون الفترة الحالية من أكثر الفترات ملاءَمةً لمواجهة التطرف، وتحدي الأخطاء والنواقص، وتحرير الخطاب الديني والاجتماعي من العنف والتشدد، وعدم الركون إلى قناعات وأوهام سادت وسيطرت، في بلاد تحلم بأن تنزع عنها طوق الظلام، وتَسير في سبيل التحرر الفكري. وقد يكون شهر رمضان وعيد الفصح في هذا العام، مناسبتَين لإعادة تعريف العلاقات الإنسانية، ووضعها في صيغة واحدة، يشترك فيها العالَم وتنطبق على الجميع؛ ما سيكون له أكبر الأثر في أمن الإقليم، بل في العالم كله.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.