هناك مشهد في السيرة النبوية يدعو إلى التأمّل. فعند الفراغ من إعادة بناء الكعبة بعد أن هدَمها السيل، اختلفت القبائل حول شرف حمل الحجر الأسود ووضعه في مكانه من البيت العتيق. وكاد ذلك النزاع يتحوّل إلى قتال، لولا أن خطرت على بال أحدهم فكرةٌ أطفأت نار الفتنة، وهي أن يُحكِّموا بينهم أوَّلَ مَن يَدخل عليهم. في تلك اللحظة دخل محمد، ولم يكن نبيًّا بعدُ، ففرح الجميع لما عُرف به من صدق وأمانة. لكن الطريف في القصة، أنّ هذا الحَكَمَ لم يستثمر الموقف لمصلحته لينال وحده شرف المهمة، ولكنه أشرك الأطراف المتخاصمة في الحلّ، حيث طلب أن يُفرش رداء ليضع فيه الحجر، ثم طلب أن يَحمل ممثّلٌ عن كلّ فريق الرداء من أحد أطرافه، حتى إذا اقتربوا من الركن، حمل محمد الحجر ووضعه في مكانه المعهود. الحكمة من القصة هي أن محمّدًا فضّل إشراك المتخاصمين على إقصائهم، وعاملهم بوصفهم أندادًا وأهلًا للثقة. لقد اختار تقاسم الأدوار عوض الاستئثار بدور البطولة. وهذه هي عبقرية القيادة؛ إذ جعل الجميع يشاركون في الرأي والفعل.
منذ عدة سنوات أُشارك في مجموعة بحثية متعدّدة الأديان، يلتقي أعضاؤها مرة في السنة للتباحث في مسائل فكرية مختلفة. ومن تقاليد هذه المجموعة بدء اللقاء بنوع من “العهد”، يعبّر فيه كلّ عضو عن استعداده للموت من أجل الآخر. في البدء كان هذا العهد مَثارًا للشكّ عندي، بدا لي وكأن فيه مبالغة قد تُحوّل المجموعة إلى ما يشبه “الفرقة الهُرطُوقيّة”. ولكن، بعد تأمّل الأمر وجدتُه مفتاحًا حقيقيًّا لفهم روح الفريق. فالاستعداد للموت في العهد لا يعني بالضرورة الموت البيولوجي، بل يعني أساسًا موت الأنا عند حسن الإصغاء مثلًا، أو عند التعاون والعمل المشترك. إنه إحداث الفراغ الضروري للتلقّي؛ إذ نفوسنا مزدحمة بالأفكار والوساوس والرغبات، وعندما نستمع للآخر تذهب خواطرنا بعيدًا، أو لعلَّنا نُحضِّر في وقت استماعنا لكلامه الردود والإجابات، أي نفكّر فيما سنقوله بمجرد سكوته، عوض التفرّغ التام للاستماع له وفهم مراده.
هناك حالة مقاومة داخلية لاواعية للاختلاف، نريد أن نثبت من خلالها ذواتنا، وأن نُعلي من شأنها، وأن نُظهر أننا الأعلم والأفهم، وكأننا في خصومة دائمة مع محيطنا. لذلك، كثير من مراكز البحث والجامعات والجمعيات الثقافية وغيرها، لا تستطيع أن تُفعّل أقصى إمكاناتها وطاقاتها، لأنها تتمحور حول شخصية الزعيم الفرد. هذا فضْلًا عن المستويات العليا في تسيير المؤسسات والدول، حيث يرتفع منسوب أدرينالين السلطة.
الطمأنينة والسكينة وأجواء الثقة والمحبة داخل الفريق، كفيلة بأن تجعل الإنسان يبذل أفضل ما لديه وأقصاه، فيكون الإنسان سخيًّا في عطائه أكثر بكثير مما يقتضيه الواجب. أما أجواء الشكّ والرقابة المبالغ فيها، وربما التوبيخ على الصغيرة والكبيرة، كلّها تُضعف الفريق وتقلّص العمل. فمعاملة الكبار كالأطفال تصغّرهم، وأيضًا معاملة الأطفال كالكبار تجعلهم ينضجون بسرعة.
روح الفريق هي روحانية قائمةُ الذات، تُحوّل الحب الإلهي من مجرّد حلم محلّق إلى واقع يومي نتنفّسه. محبة الله لا تكتمل إلا عندما تُترجَم عبر محبة الآخر؛ إذ حبّ الله يقتضي حبَّ الإنسان، وعبادة الخالق تكون بخدمة المخلوق. وهذا ما يجعل روح الفريق الخطوة الأولى نحو روح الإنسانية، أو هي المدرسة الأولى في السعي نحو الأفق الأرحب. والفريق هنا قد يكون العائلة أو العمل أو المدرسة أو الجامعة… إلخ.
من خلال هذا التحليل، يتبيّن أن علاج الديكتاتورية وما يترتّب عليها من فقدان النجاعة في التسيير والعمل والإبداع، أنما هو أساسًا علاج روحي، ينطلق من العالم الجُوَّاني لكلّ واحد منا. فنحن نُنتج الزعيم الديكتاتور على جميع المستويات، لأننا نحمل في ثقافتنا وتربيتنا وتكويننا تلك الرغبة الطفولية في الزعامة والقيادة والتفوّق. إنها أنانية الأطفال التي تَسكن شيوخًا لم يكبروا قط، بل هي بالأحرى أنانية فقدَت شقاوة الطفولة وبراءتها، لتصبح أنانية مريضة مُفرِزة للأزمات.
إن هذا لا ينتقص من أثر العوامل المؤثرة الأخرى ذات الطبيعة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. فالظواهر الإنسانية معقّدة، ولا يمكن اختزالها بعامل وحيد. ولكن العامل النفسي الروحي المتعلّق بوهم الزعامة، يظلّ الأساس والرقم الصعب. إنْ لم يُعالَج، فإننا مُجبَرون على ارتكاب الأخطاء نفسها. ومن هنا تَبرز أهمية التربية الروحية، التي هي مهمة الأديان الأساسية، ولكنها يا للأسف تكاد تكون فريضةً غائبة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.